IMLebanon

لا تسألوا محبَطاً عن الثورة

 

 

خطأ شائع (11)

 

لا تصغ إلى محبط يحدثك عن الثورة. اشفق عليه. امسك بيده. قد يكون صادقاً، لكنه مستعجل. قل له العجلة من الشيطان وفي العجلة ندامة. وقل له إن أعمار الثورات لا تقاس بأعمار الرغبات الشخصية. الثورة الفرنسية تناسلت أكثر من ثلاث مرات خلال قرن، ثورة على الثورة وثورة مضادة وثورة داخل الثورة؛ والديمقراطية لم تعثر بعد على تجسيد نهائي لحلم الحرية رغم مرور قرنين ونصف على ولادتها.

 

يستكثر المحبط اسم الثورة على 17 تشرين، ولا يرى فيها سوى انتفاضة أو تحرك، ويتساءل أين هي الثورة اللبنانية؟ أين هي الجماهير التي ملأت الساحات والشوارع من الناقورة حتى النهر الكبير منذ عامين ونيف؟

 

يستغرب المحبط كيف لا يخرج الناس على الحاكم بسيوفهم – رحم الله أبا ذر الغفاري- بعد هذا الانهيار النقدي الكبير وكانت زيادة سنتات قليلة على ضريبة التواصل قد أخرجتهم ذات يوم غاضبين.

 

قد يكون المحبط من النخبة، صحافياً، كاتباً، شاعراً، مثقفاً، ويفاجئك ببكائيات ونعي لتضحيات المناضلين من مثل، لبنان القديم مات، يا ضيعانك يا لبنان، انهارت الصيغة والكيان، وكلام كثير عن مخاوف من تحضيرات لحرب أهلية ومؤتمر تأسيسي وكل الصور القاتمة عن موت محتم للثورة ومستقبل مظلم للوطن.

 

قيل للصحافي الصديق نصري الصايغ إن مقالاته «جنازة كلامية». فرد بقوله، «أعتذر من كلِّ يائسٍ، لُبنانك الجميل قد توارى والأفق مغلق، ولا إرهاصات تفصح عن بصيص أمل».

 

كثيرون على صفحات التواصل يشبهونه بالتشاؤم والاحباط وبصدق انتمائهم إلى حلم بوطن خال من الطائفية ومن مفاسد السياسيين.

 

ينجم الاحباط عن مفاهيم مغلوطة عن الثورة والإصلاح أو عن صور عنهما نمطية متعددة ومتنوعة، من الثورة الفرنسية إلى السوفياتية إلى ما سمي ثورات من حولنا في بلدان الانقلابات التي قادها ضباط أو معمّمون.

 

المهمة الأولى لدى كل ثورة هي الاستيلاء على السلطة، وهي مهمة الانقلابات أيضاً. لكن الثورة، خلافاً للانقلاب، تستكمل عملية التغيير في كل ما يتعلق بإدارة الشأن العام، في الاقتصاد والثقافة والتربية والقوانين والقضاء. هي المهمة الأسهل. الأصعب هو إعادة بناء الدولة وترسيخ الأسس والقيم المتعلقة بالسيادة والقانون والديمقراطية.

 

هنا بالضبط يكمن جوهر المآثر التي تنسب إلى الثورة اللبنانية وحدها دون ثورات الربيع العربي. فهي قررت استبدال اسقاط النظام بتطبيق النظام، واستبدال السلطة بالديمقراطية لا بالانقلاب، ومواجهتها بالنضال السلمي لا بالعنف المسلح. بهذه المعايير يمكن تعداد إنجازات كثيرة العدد وكبيرة الحجم بفعلها ومآلاتها.

 

أولها أنها رفعت القناع عن صراع كاذب بين سلطة ومعارضة من الطينة ذاتها، وعن تعايش فاضح بينهما في البرلمان وفي الحكومات، وعن دور ميليشيات مسلحة وأخرى غير مسلحة اغتصبت تنظيم حياة اللبنانيين في السلم وفي الحرب وفي مرحلة الوصاية.

 

وثانيها أنها أثبتت حرص اللبنانيين على الوحدة الوطنية وفضحت كيف يستخدم الحاكم الطائفية سلاحاً للتفرقة وقناعاً للفساد وغطاء للمحاصصة.

 

لأول مرة في تاريخ الجمهورية تنشأ معارضة من غير طينة السلطة، قوامها أهل الثورة وعدد من نواب الأمة بعد استقالتهم من البرلمان ووقوفهم إلى جانب المطالب الشعبية. ولأول مرة تستقيل حكومتان تحت ضغط الثوار وينحاز رئيس إحداهما للثورة، وتمتنع أحزاب عن تجديد مشاركتها في الحكومة، ولأول مرة يشكل المسؤولون عن الفساد والانهيار وحدهم الحكومة معزولين في العراء من غير غطاء.

 

ولأول مرة لم يعد البت بالقضايا المتعلقة بالشأن المالي والاقتصادي والسياسي أو ببرنامج الحكومة وميزانيتها أمراً يقرره المتحاصصون في الكواليس والغرف السوداء، بل صارت بقوة الثورة مادة للنقاش على أوسع نطاق في وسائل الإعلام وبين أهل الاختصاص.

 

ولأول مرة يهتز كيان المنظومة الحاكمة ويتزعزع تماسكها وترتعد فرائصها فتلجأ، وهذا دليل على ضعفها لا على قوتها، إلى استخدام العنف والسلاح الناري وإنزال الميليشيات الحزبية لقمع الثوار، بهدف استدراجهم إلى عنف مضاد، لكن مستوى رفيعاً من الوعي والحكمة لدى جمهور الثوار أجهض خطط النافخين في أبواق التحريض الطائفي والمذهبي وفي نار الحرب الأهلية.

 

ظاهرياً، لم تنجز الثورة تغييراً ملموساً. والمسؤولون عن الأزمة ما زالوا يعملون على دفع الأوضاع نحو الانهيار. لكن الثورة وضعت قطار التغيير على سكته الصحيحة لأول مرة، حين طرحت على بساط البحث قضية إعادة تشكيل السلطة السياسية وقضية السيادة الوطنية وقضية الديمقراطية كأولويات، بديلاً من استبدال الطاقم السياسي بآخر يشبهه.

 

لم يبلغ ثمر الثورة مرحلة العنب. هو حصرم لكنه ليس في حلب. المسار طويل وصعب ومعقد. الانتخابات النقابية والطلابية تمرين مفيد ينبغي أن نستفيد من دروسه في الانتخابات النيابية القادمة، وأهم هذه الدروس تجميع قوى المعارضة وقوى الثورة لإحداث خرق في جدار الأزمة السميك.

 

الثورة لم تحرز انتصارها بعد على قوى السلطة، لكنها أرست أساساً متيناً يبنى عليه. أما الاعتقاد بأن الثورة ماتت فهو من الأخطاء الشائعة.