من أهم المفردات الرائجة على لسان الشبيبة في لبنان اليوم كلمة: الثورة. من أجلها تقام التظاهرات والاحتفالات وتلقى الخطب وتُدبّج المقالات، وتطلق الشعارات، وهي مظاهر عمل سياسي عادي لا يتجاوز المظهر إلى الجوهر. ذلك أن دراسة في العمق لمسار المجتمع اللبناني، والعربي على وجه العموم، تؤكّد وجود عوائق أساسية أمام تحقيق الثورة الثقافية المرجوة والمطلوبة، هي أبعد بكثير عما يراه ويعتقده شبابنا اليوم، وهو أقرب إلى الشكل منه إلى الأعماق. ذلك أن الحضارة ترتبط حكماً باللّغة التي كتبت بها. وبما أن الحضارة العربية كتبت باللّغة العربية، فإنّ أي تغيير أو تعديل، أو تطوير في هذه الحضارة، يقتضي إجراء ما يشبه ذلك في اللّغة العربيّة. إن الثورة داخل الفكر تبدأ بالثورة داخل اللّغة وهذا ما ينبغي تحقيقه في القرن الحادي والعشرين بالخروج على معضلة الدوغمائية في اللّغة العربية (Dogme). وهذه الدوغمائية تعني ان اللّغة العربيّة هي «معطى عفوي منظور إليه كحقيقة أساسيّة موثوقة، مؤكّدة وغير قابلة للنقاش». ان الخروج من هذه الدوغمائية، وعليها، تبدأ بطرح موضوعات اللّغة والحريّة والهويّة والحقيقة والدولة والتاريخ. وتكوين رؤية شاملة إلى الانسان والحياة. رؤية ذات فلسفة اجتماعيّة تبنى عليها الفلسفة التربويّة القادرة على تحرير اللّغة وبالتالي تحرير الانسان!
أولاً: بعض المبادئ الثوريّة لإستخدام اللّغة العربيّة.
1 – وظيفة اللّغة العربيّة انها أداة تواصل وتفكير وإبداع، وبالتالي لا بدّ من إعتماد العربيّة الفصحى، لغة تواصل وتعلّم، لغة كتابة ومخاطبة وربطها بالحياة إلى جانب جعلها عند المتعلّم لغة أدب وإبداع.
2 – توظيف مادّة اللّغة العربيّة وآدابها في تنمية طاقات المتعّلم الفكريّة والوجدانيّة والسلوكيّة، وتعزيز إستقلاله الذاتي وتنمية قواه الفاعلة.
3 – القدرة على إمتلاك التفكير العلمي النقدي المجرَّد.
4 – ربط اللّغة بالحياة.
5 – إكتساب اللّغة العربيّة بيسر وإستخدامها بعفوية وإطمئنان.
6 – التعامل مع البيئة الإجتماعية التي نقيم فيها وتفهّم قضاياها والاضطلاع بالمسؤولية تجاهها.
ثانياً: في المعنى الدوغمائي للغة العربيّة.
إن الاشكاليات التي تعاني منها اللّغة العربيّة وفيها القدرة على الإبداع وسهولة الاستيعاب والعلاقة بالحياة. وليست مهمّات سهلة ابداً، فهي ليست نصوصاً تُوضع أو فصولاً تُختار أو أسلوباً في التعليم. انّها كلّها مجرّد تحوّلات على البعد الأهمّ والأكثر تأثيراً على اللّغة العربيّة، هو البعد الدوغمائي الّذي يمكن تبينه في المعطيات التالية:
1 – إن اللّغة العربيّة هي لغّة دينيّة قبل كل شيء. لغّة الوحي، لغة الله التي أنزلت في القرآن الكريم. فهي لغّة الخالق الّذي «علّم آدم الأسماء كلها» (البقرة31).
2 – بحسب الأب اليسوعي بولس نويا «لم تكن العلاقة بين الثابت والمتحوّل في الحياة العربية علاقة جدلية بل تناقضية أدّت إلى العنف الّذي تغلّب فيها الثابت على المتحوّل وقضت على كل محاولة قامت بها النزعة الابداعيّة. وكان من جرّاء ذلك إعلان الوحدة بين الدّين واللّغة، بين الشعر والاخلاق، بين التراث الأدبي والتراث الديني. وانتهى العربي إلى الشعور ان لغته ودينه وكيانه القومي وحدة لا تتجزأ.
3 – إن لغّة القرآن عربيّة خالصة خصّها الله بما لم يخص به أية لغّة أخرى، لذا اعتبرها أبو عبيدة «وحياً لا يخضع للتطوّر ولا يجوز عليه التغيّر».
4 – هذا الموقف طرح إشكاليّة الخلاف حول طبيعة اللّغة: هل هي إلهام أم انها اصطلاح؟ هل هي غاية أم أنّها مجرّد وسيلة؟ وطبيعي ان يكون جواب القائلين بأنّ القرآن أزلي غير مخلوق، ان اللّغة التي أُنزل بها هي إلهام وغاية لأنّها جزء من صفات الله وبالتالي فهي تستمدّ طبيعتها من ميزتين: الاقدميّة والكمال.
5 – لأن كل شيء في الثقافة العربيّة، سواء كان شعراً أو لغّة أو فلسفة، صار شكلاً من أشكال الدين أو امتداداً له أو تفريعاً عليه، «فأصبح كل نقد يوجّه إلى اللّغة، أو كل تعامل معها باعتبارها مجرى وجسماً حياً ينمو ويهرم ويموت كلّما ابتعد عن الأصل تشعَّب»، كما يعرّفها أنيس فريحة، وكأنّه نقد للدّين ذاته وللبعد المقدّس في لغّة الوحي.
6 – إن الربط بين اللّغة والوحي بأكثر من الربط بين اللّغة والعقل، خلق فجوة بين اللّغة والطبيعة، بين اخضاع الفكر لقوالب اللّغة أو اخضاع اللّغة لمستلزمات الفكر. ومع أن اللّغة هي الفكر، والفكر هو اللّغة، يبقى الفكر أولاً والقالب ثانياً لأنّ اللّغة كوسيلة هي خادمة وليست مخدومة.
خلاصة ذلك، أنه بوجود مفكرين وباحثين يقبلون أو لا يقبلون بهذه الدوغمائية، كلياً أو جزئياً، فإنّها في واقع الأمر قائمة في أذهان الكثيرين وتؤثّر بشكل مباشر أو غير مباشر على تطوّر وتطوير اللّغة العربيّة صياغةً وتدريساً ليس في لبنان وحسب بل في كافة الاقطار العربية.
ثالثًا: في انعكاسات الدوغماتية اللغوية على التربية والانسان
1 – في المبدأ ليس هناك لغة أفضل من لغة، وليس هناك تمييز لغوي قائم على ما يسمّى «عبقرية اللغة» فلكل لغّة عبقريتها وقدرتها على التعبير عن حياة المجتمع. هناك حضارة أرقى من حضارة، وحياة أغنى من حياة، واللّغة الجيدة هي تقوم بوظيفتها على أكمل وجه في الفهم والإفهام. إنّ جمود اللّغة هو سبب نشوء اللهجات وبالتالي ظهور فجوة نسبية بين اللّغة والحياة.
2 – إن الإنطلاق من قاعدة ان الأعرابي لا يخطئ، وبالتالي بناء الكثير من القواعد على قواعد السماع والقليل منها على القياس العقلي، خلق سيلاً من الإحتمالات في وضع القواعد ودراستها والاخطر منه أن ضبط ذلك غير ممكن في ظل هالة الدوغما التي تجعل كل نقد للغة وكأنَّه نقد للدين، وهو ما يتحمّل نتائجه التلامذة من دارسي القواعد العربيّة !
3 – إن صعوبة التجديد اللّغوي تؤدي حكماً إلى صعوبة التجديد الأدبي. ان الرؤيا في الشعر تفرض تغيير نظام الأشياء والنظر إليها مما يستدعي خلق لغة في قلب اللّغة كما يقول أدونيس. هذا يستدعي بالفعل قدرة على تجاوز الدوغمائية وهو ما حقّقه اللّبنانيّون في النهضة العربيّة المعاصرة لغةً وشعراً وفلسفة وفكراً كونهم في غالبيتهم من المسيحيين الذين يعيشون خارج الدوغمائية اللّغوية العربيّة، وهذا ما أسميناه في إحدى المناسبات «تحقيق بولسية جديدة» في الحضارة العربية انطلاقاً من دور المسيحيين اللبنانيين بين: المسيحية والاسلام والحضارة العربيّة والحضارة اليونانيّة.
في الخلاصة، ان المفهوم الدوغمائي للغة العربية، أثّر ويؤثّر بشكل عميق على مسار اللّغة وبالتالي على مسار الحضارة العربيّة ككل وعلى مسار الثورة العربيّة التي هي بحاجة قبل كل شيء إلى جذور عميقة في وجدان المجتمع، وبالتالي في وجدان لغته وتركيبتها وعلاقتها بالفكر والإبداع والحياة، هذا يعني ضرورة وضع اللّغة العربيّة على مسار الزمن الطولاني «إلى أورشليم الجديدة» وليس الزمن «الدائري إلى القرون الوسطى» هذا المسار الطولاني يساعد الإنسان الراغب في تغيير العالم على الخلق والابداع فليس الابداع ممكًنا إلاّ في رحاب الحريّة!!
والحريّة هي العلامة الأولى والأساسيّة لتأكيد الثورة!