IMLebanon

شاركوا، خافوا، تحمّسوا وحفظوا الـ”هيلا هو”

 

هم مقيمون في بيروت مع أهلها و ساكنيها، لكل منهم أسباب تدعوه للبقاء في هذا الوطن الفريد. بعضهم هنا منذ شهور قليلة وآخرون باتوا من أهل البيت يعرفون لبنان و مشاكله وسياساته بقدر ابنائه أمضوا فيه سنوات طوالاً و تآلفوا مع نفاياته وانقطاع كهربائه وغلاء أقساطه وأصروا على البقاء فيه رغم تلك المشاكل.

كلهم كانوا هنا عند اندلاع الثورة او الاحتجاجات. شاركوا اللبنانيين حماسهم واندفاعتهم كما شاركوهم القلق حول المستقبل والخوف من المجهول. ولكن كيف عاش هؤلاء الأجانب ثورة 17 تشرين وما تلاها ؟ هل ازعجهم كما البعض قطع الطرقات؟ هل خافوا من الفتنة وزعرانها؟ هل خشوا على دولاراتهم في المصارف؟ فلنتعرّف إلى عيّنات من أجانب بيروت وكيف عاشوا ثورتها.

 

لاحتجاج أكثر حدّة

 

شندلر شاب أميركي قصد لبنان قبل الثورة بشهر وكان قد تعرف الى بلدنا زائراً السنة الماضية واصرّ على العودة إليه مقيماً هذه السنة. عند اندلاع الاحتجاجات كان قد صار على علم بالخطوط العريضة للسياسة اللبنانية فهو حشري بطبعه لذا كان شديد الاهتمام بمتابعة أخبار الثورة حتى انه أنزل العديد من التطبيقات الإخبارية ليتابع ما يحدث لحظة بلحظة. سأل من حوله أن يشرحوا له بوضوح عن الأحزاب اللبنانية داخل السلطة وخارجها، وحفظ اسماءها وعرف من كان المتظاهرون يستهدفون في الأيام الأولى، حتى أنه حفظ الهيلا هيلا هو بنسختها الأصلية. لم يخف من الدواليب المحترقة في الأيام الأولى ولم يخش العنف بل كان في غاية الحماس و كأن فورة اللبنانيين ضد الفساد هي قضيته الخاصة. نزل الى ساحة الشهداء أكثر من مرة وكان هناك في عرض الاستقلال الشعبي وكذلك حين رفعت قبضة الثورة من جديد بعد إحراقها. لكن ما لم يفهمه شندلر هو كيف سيتمكن اللبنانيون من تغيير نظامهم الفاسد بالرقص والغناء، ويقول أليس أجدر بهم أن يحتجوا بشكل أكثر حدة؟ اليوم هو لا يزال ينتظر أن تأتي الثورة بثمارها ولكن نصحه البعض كأميركي مقيم في لبنان بألا يجاهر بآرائه السياسية وأن يتوخى الحذر في كلامه.

 

من الدلفة لتحت المزراب

 

مواطنته تانيس المقيمة مع عائلتها في لبنان منذ ثماني سنوات، تتكلم العربية بطلاقة وتتابع الى حد ما أخبار لبنان. فاجأتها الانتفاضة ولم تعرف بداية ماذا تفكر، وكانت الشكوك كما الخوف من المجهول يقلقانها ويقلقان المؤسسة الخيرية التي تنتمي إليها وتعمل معها لكنه لم يكن خوفا من العنف بالمعنى الحقيقي كما تشرح تانيس. فهم كأجانب او أميركيين تحديداً، ليس لديهم ذكريات مع الحرب والعنف كما اللبنانيين لذلك لم يخشوا الأسوأ ولم ينتبهم الذعر الذي انتاب اصدقاءهم اللبنانيين او حتى اللاجئين السوريين الذين يهتمون بهم. فهؤلاء على وجه الخصوص كانوا الأشد خوفاً وقلقاً فقد خبروا الخوف في بلدهم وها هم يعيشون الفوضى من جديد هنا و كأنهم انتقلوا من “الدلفة الى تحت المزراب” (قالتها بالأميركية طبعاً). بالنسبة إليهم كأجانب كانت التعليمات واضحة من السفارة الأميركية ومن المسؤولين عنهم بان يتابعوا الأخبار عن كثب و بألا يذهبوا الى أماكن تجمعات المحتجين و بأن يحرصوا على التزود بالبنزين والمواد الأساسية. أما بالنسبة إليها كفرد فالثورة كانت بعيدة عنها لكنها أحست بنارها حين قام بعض المحتجين بإحراق الدواليب وقطع الطريق أمام المؤسسة الخيرية التي تعمل فيها حينها أحست أنها صارت في قلب الأحداث وأن الثورة على بابها وعليها متابعتها عن كثب. اما همّها كأم فكان توقف المدارس، فقد خشيت كما كل أمهات لبنان أن تضيع السنة الدراسية على ابنائها هذا ما زاد الضغط عليها فقد خافت على مستقبلهم التربوي اكثر من خشيتها على مستقبل لبنان وسياسييه. تانيس المتحفظة لا تود إبداء أي رأي سياسي يختص بلبنان و لكنها كمؤمنة تؤكد بأن كنيستها دائماً مع الحق والعدالة وضد الظلم والفساد.

 

خشية إليزابيت او ليزا كما يسميها الأصدقاء تختلف عن خشية بقية الأجانب في لبنان فهي مسؤولة عن ميتم يضم الكثير من الأولاد وخوفها الأكبر كان كيف يمكنها أن تؤمن للأولاد احتياجاتهم الغذائية في ظل الشائعات الكثيرة التي انتشرت مع بداية الانتفاضة عن امكانية فقدان الأصناف الأساسية من الاسواق وعن حدوث ازمات رغيف وبنزين ودواء. لم يهمها العنف في الخارج ولم تعنها هتافات الثائرين بل ما عناها كيف توفر المازوت لمولد الكهرباء وقوارير الغاز للطهو وتحضير الطعام. تعرف جيداً أن هناك فساداً في الدولة اللبنانية ومماطلة وإهمالاً وقد خبرتها كلها من خلال عملها مع وزارة الشؤون سابقاً وتقول علناً إن الوقت قد حان للبنانيين للانتفاضة والمطالبة بدولة عادلة شرط أن يبقى أولادها بعيدين عن أي ضيق أو اذى. اسوأ كوابيسها اليوم عدم قدرتها على سحب المبالغ المالية التي يتم التبرع بها في الخارج للميتم واضطرارها الى اعتماد التقنين ريثما تنجلي الأمور.

 

 

ثورة تم تصديرها

 

 

ما يخشى قوله البعض لا يتردد سيرغي من المجاهرة به علناً. فسيرغي رجل صربي صلب من يوغوسلافيا السابقة يعرف جيداً “فشاد” (فساد) الدولة اللبنانية ويشبهه بـ”الفشاد” الذي عرفته يوغوسلافيا في السابق. لا يتردد كما غيره من الأجانب في شتم السياسيين خاصة وأنه من خلال عمله مع بعض المؤسسات الدولية يعرفهم جيداً ويفهم ألاعيبهم وسرقاتهم المقنعة. فخور هو بقبضة الثورة لأن ثوار يوغوسلافيا السابقة كانوا أول من أطلقها ونقلوها الى العالم حتى أن قادة الثورة اليوغوسلافية قد وضعوا قواعد واضحة للثورة السلمية الناجحة وعلموها للعالم أجمع. وما يعرف اليوم باسم Otpur ويعتبره البعض مشبوهاً ما هو إلا كلمة مقاومة او resistance بالصربي. ويشرح سيرغي بإسهاب عن الثورة في بلاده وكيف أنها على خلاف الثورة اللبنانية لم تعتمد قطع الطرق بل كان الناس يذهبون الى اشغالهم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، بعدها تتوقف كل حركة في البلاد حيث يتجمع الكل في الساحات بما يشبه العصيان. و يعتبر سيرغي ان الحل الوحيد أمام اللبنانيين لتحقيق مطالب ثورتهم هو بالصمود والمثابرة فالثورة في يوغوسلافيا جوبهت بالعنف والقمع لكن الناس بقوا لأشهر في الشوارع ولم يخرجوا او يستسلموا حتى تحققت أهدافهم وهذا ما ينصح اللبنانيين بفعله.

 

 

 

ثورة الناس بين تونس ولبنان

 

قصة غاس الكندي السبعيني مع الثورة مختلفة فهو وصل الى لبنان قبلها باسابيع وكان ينوي قضاء بضعة اشهر فيه لإتقان اللغة العربية حتى يتمكن من التواصل مع اللاجئين العراقيين في بلده عند عودته إليه. ولسوء حظه، كان غاس يعيش في ليبيا حين قامت الثورة هناك وشهد ما آلت إليه الأوضاع في ذلك البلد المأزوم وكيف تصاعد العنف وأكل الأخضر واليابس فيه. لذا حين انطلقت الاحتجاجات في لبنان شعر بالقلق والخشية مما يمكن ان يحدث وازداد قلقه حين لم يتمكن في بداية أيام الثورة من العودة الى حيث يقيم نتيجة انقطاع الطريق وعدم توافر تاكسي uber لنقله. حين تأكد بعد بضعة أيام أنه لن يتمكن من التنقل وان ثمة أزمة تاكسيات، حزم أمره وقرر مغادرة لبنان في الليلة نفسها والعودة مع زوجته الى كندا. لم يكن تبديل بطاقة سفره بالأمر السهل لذلك استنفر جميع اصدقائه ليؤمنوا له تذكرة في الليلة نفسها اي بعد اسبوع واحد على بدء الانتفاضة ليغادر لبنان. اليوم وعبر السكايب يسأل غاس عن أخبار لبنان وأحوالنا بعد أن شعر انه بات معنيا بالثورة و أن وجهه خير على الثورات كما يقول.

 

كما صديقه غاس، كريس المواطن الأميركي الموجود في لبنان مع زوجته منذ بضعة اشهر، شهد بدوره على أحداث الثورة التونسية اذ إنه عاش في تونس 20 عاماً وتابع ثورتها عن كثب واطلاع. يجدها مختلفة عن ثورة لبنان. فالأمور هناك كانت أقسى، فالقمع اشد والعنف تصاعد بسرعة والناس كانوا خائفين. في تونس غضب الناس كان أكبر اذ لم تكن لهم يوماً حرية التعبير التي يعرفها اللبنانيون، لذا ظهرت مشاعر الغضب عندهم كبركان متفجر. اما في لبنان فالأمور كانت أهدأ فيها الكثير من الفرح والهيصة. لكنه لاحظ أمراً غريباً وهو خوف اللبنانيين الأكبر سنا مما يمكن أن يحدث وكأن ذكريات الحرب الأهلية استيقظت فجأة مع أحداث الثورة. فهؤلاء كانوا حذرين على خلاف الشباب. بالنسبة إليه كأجنبي ورغم قلقه من المجهول فرح جداً بانتفاضة الشعب اللبناني ونزل الى الساحات لكنه يخشى من تفرق الشعب اللبناني وهو الأمر الذي لم يحدث في تونس كما يخشى من أزمة اقتصادية قد تسوء كما حدث هناك.

 

كونها من إيرلندا الشمالية جعل من سوزان شخصية قوية ليس من السهل إخافتها. فهي طبيبة تطوعت للعمل في لبنان منذ بضعة اشهر وقبلها كانت في اوغندا الأفريقية.. كانت قد وصلت حديثاً الى بيروت حين انفجرت الثورة، لكن يبدو ان ذلك لم يغير شيئا من مخططاتها فهي لم تتغيب إلا مرتين في بداية الثورة عن الذهاب الى العيادة المجانية التي تعمل فيها نتيجة انقطاع الطرق ثم بعد ذلك ثابرت على التنقل بين بيروت وزحلة بكل جرأة حتى بوجود الكثير من الاضطرابات على الطرقات البقاعية. تقول سوزان إن اللبنانيين لا يتفوقون أبداً على الإيرلنديين بالعنف والشغب، ومن يعش في بلفاست لا تخيفه هذه الاحتجاجات السلمية فقد سبق لإيرلندا الشمالية ان عانت من اضطرابات أهلية لا تزال انعكاساتها تتردد حتى الان. أكثر ما أزعج سوزان هو تردد أهلها في المجيء الى لبنان لزيارتها بعد أن كانوا قد خططوا لذلك لا خوفاً من الأوضاع بل لعدم قدرتهم على الاستفادة السياحية من مكوثهم فيه. سوزان تبدي فخرها علناً بالـ Thawra اللبنانية وهي تنوي البقاء في لبنان وليست قلقة مطلقاً من أزمة الدولار فهي لم تحتج إليه ابداً في مصروفها اليومي.

 

ثورة ومهرجان

 

 

فيليبا شابة كندية سبق لها ان عاشت في لبنان بضعة أشهر وعادت اليه للعمل. لا تتدخل مطلقا في السياسة ولا يعنيها ما يحدث، تسكن على مقربة من عملها لذا لم تعان من انقطاع الطرقات او إحراق الدواليب. أكثر ما أزعجها أنها لم تتمكن من إيجاد بطاقة تشريج لهاتفها في بدايات الثورة فاضطرت للبقاء بلا هاتف وبلا انترنت لبضعة أيام الى حين توافر بطاقات التشريج من جديد. شعر اهلها بالخوف عليها في بداية الأمر وكانوا يحثونها على العودة الى كندا، لكن زيارة واحدة من قبلها الى ساحة الشهداء كانت كفيلة بتبديد خوفهم. فقد صورت بهاتفها فيديوات لفرح الناس ورقصهم وهتافاتهم وصورت بائعي العرانيس والمناقيش والكعك، ما بدا لأهلها في كندا وكأنه مهرجان شعبي كما في كل دول العالم. حتى ان والدتها شبهته بوودستوك الشهير. وكانت هذه الزيارة اليتيمة كفيلة بجعل فيليبا تشعربالحماس والإثارة لكونها شاركت في ثورة لبنان خاصة بعدم وجود الكثير من الأحداث الحماسية في بلدها الأم.

 

 

“أين جل الديب؟”

 

بدر شاب عراقي الأصل اميركي المولد والنشأة يدرس في لبنان ويتابع ثورته بقدر ما يتابع ثورة بلده الأم العراق. متحمس لنجاح الثورة عندنا وكأنه يرى في نجاحها بصيص أمل لتحقيق خرق ما في عراقه. همسا يقول ان الأسباب نفسها ولكن يبدو وكأنه يخشى التفوه بذلك علنا. زار ساحتي رياض الصلح والشهداء وتجول مع اصدقائه فيهما. لم يفهم جيداً هتافات المحتجين لكنه كان سعيداً بها وأحس أنه ينتمي الى هذه الثورة. حفظ لحن الهتافات لا كلماتها، لكن السؤال الأكبر الذي يجول في خاطره ” أين جل الديب؟” وأي منطقة ثائرة هي جل الديب. فهو يسمع عنها كل يوم وعن ثوارها ومعاركهم مع القوى الأمنية ومحاولاتهم الدائمة لقطع الطرق. ربما يظنها على الحدود مع العدو او معقلا جبلياً محصنا للثوار، خجلت ان أقول له إنه مقطع من الطريق الساحلي لا يتعدى مئات الأمتار بات شعاراً للثورة ورمزا لقمعها.