مندسون في الساحات تحت عين الشمس
أمران يمنعان السلطات من حلّ الأزمات: أن تنكرها أو أن لا تعرف أسبابها! فهل نُكران هذه الطبقة الحاكمة لاقترافاتِها ولكثير من الحقائق هو الذي يؤجج الأزمة؟
هناك من ينزل الى الساحات، يشتم، يرمي القناني الفارغة والحجارة وقنابل المولوتوف أحياناً، و”يشقلب” الشوارع “فوقاني تحتاني” ويعود من حيث أتى. فهل هذا هو المندس؟ وزيرة الداخلية ريّا الحسن لم تنجح (أقله حتى اليوم) في تحديد الجهة التي يأتي منها المندسون! فهل أتوا من المريخ؟ وهل الخطط الأمنية التي اعتمدت خلال 60 يوماً من التظاهرات مقبولة عسكرياً؟ أين أخطأت القوى الأمنية وأين أصابت؟ وهل يجوز أن يخرج من اندسّ في كلِّ مرة كما تنسلّ الشعرة من العجينة بلا أثرٍ ولا عقاب؟ وهل ما نراه من شغبٍ في الساحات سببه اختلاف في الذهنية بين المتظاهرين أم دسّ السموم بين المتظاهرين والقوى الأمنية المستنفرة؟
يراقب مروان شربل، وزير الداخلية السابق، مسار الأزمة ومشهدية الساحات ويقرأ فيها: كلمة مندسّ واسعة جداً. ففي التظاهرات، أيّ تظاهرات، نجد أشخاصاً يختلفون في السياسة والإنتماء والمطالب. ومن يندسّ يكون عادة على خلاف رأي المتظاهرين ولا يريد رأياً يُعارض رأيه. هناك نوع آخر من المندسين، هم من يرتدون الثياب المدنية ويتبعون أجهزة أمنية معينة، ومهمتهم مراقبة ما يحصل في التظاهرات، والتدخل، ضمن حدود معينة، حين تحصل أعمال شغب. وتصوير المندسين الذين يُحدثون شغباً والبحث لاحقاً عنهم.
نفهم من كلام وزير الداخلية السابق أنه يفترض أن يكون قد أصبح لدى “وزارة الداخلية” اليوم تقرير سميك عن من يعيثون فساداً ويقلبون هدفية التظاهرات ويقوضون هتاف المتظاهرين السلميين: “سلمية سلمية”. وهنا، في هذا الإطار بالذات، يشدد مروان شربل على ضرورة أن يحصل تنسيق بين الأشخاص السلميين والأجهزة الأمنية وقوى الأمن الداخلي ويقول: التنسيق مطلوب كي يُصار الى تأمين حماية العسكري والمتظاهر، فيتم تبليغ القوى الأمنية بالتظاهرة وموعدها، حتى يمكن للمتظاهرين القبض على من يرونه يشعل فتيل التوتر والصدام، ويعتدي على الأملاك العامة، وتسليمه الى القوى الأمنية. السلامة العامة مطلوبة في هذه الأيام أكثر من أي يوم آخر.
من يُصغي الى وزير الداخلية السابق وهو يتحدث يستغرب، فنحن في ثورة، والثورة ألا تُرسم تفاصيلها مسبقاً؟ يجيب: أصبح ضرورياً أن يُصبح للثورة قائد.
لكن، ماذا عن الهمس الذي يسود، من حينٍ الى آخر، عن ضلوع الدولة في “دس الدسائس” من أجل تفتيت ساحات وتظاهرات ومطالب؟ لا يرغب مروان شربل في الدخول في هذا النوع من الكلام قائلاً: لا أعتقد هذا. المندسون من قِبل القوى الأمنية هم من يلتقطون الصور والمعلومات ويرفعونها الى الجهات المختصة، لا أكثر ولا أقل، وليس ضمن مهامهم لا بثّ التفرقة ولا إلقاء القبض على المشاغبين.
وماذا عن التنسيق بين قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني؟ يجيب: ينزل الجيش بطلبٍ من قوى الأمن الداخلي، وهو غير مجهز بعتاد يتيح له قمع التظاهرات. مهمة الجيش اللبناني حماية الحدود لا الدخول في زواريب الشوارع الداخلية. وهو ليس مجهزاً بأقنعة واقية من القنابل المسيلة للدموع.
العميد المتقاعد عبدو بجاني يفقه هو أيضاً لغة الأرض. وتساءل حين سمع كلام وزيرة الداخلية عن عدم تمكّنها من تحديد الجهة التي تندسّ في كلِ مرّة لافتعال الشغب بقوله: هناك نوعان من المندسين، مثيرو الشغب: نوع أوّل مكلّف، ينزل بأمرٍ مسبق للقيام بأعمال عنفية، مستخدماً الدراجات النارية. وهو يأتمر، بأكثريته الساحقة، من الثنائية الشيعية. ويضم جماعات من جبل محسن وسرايا الدفاع في الشمال. وهؤلاء يشاركون “الحزب” و”الحركة” في ضرب التظاهرات حتى ولو لم يحملوا أسماء: علي وحسين… ويستطرد: هل يُخفى على أحد وجود عدد كبير من العناصر الأمنية بين مجلس النواب وعين التينة التابعة مباشرة لرئيس المجلس وتتفرغ له في حين أنه يكفي 200 عنصر؟ هؤلاء ميليشيا خاصة تقبض من خزينة الدولة.
أما النوع الآخر من المندسين، فهو ليس مكلفاً، وهو يتشكّل من السنّة، من سنّة عكار مثلاً، وهناك من يتكلم منهم بلهجة عربية قد لا نفهمها، وجميعهم يشعرون بقهرٍ شديدٍ من الطائفة الشيعية، ويتصرفون على سجيتهم، ويحرّكهم هذا القهر على طبقة حاكمة ويفرغون نقمتهم بأداءٍ فوضويٍّ يصل الى حدّ الغوغائية أحياناً. وهؤلاء لا يملكون ما يخسرونه. هؤلاء رأيناهم في اليومين الأخيرين بكثرةٍ في ساحات بيروت.
لا أحد يستطيع أن يقول “واحد زائد واحد” في شارع مفتوح. وما حصل أول البارحة، وقبله، في بيروت من “كرّ وفر” بين المتظاهرين والقوى الأمنية يحتاج الى تحقيق جدي وتحليل في التفاصيل، مع الأخذ طبعاً في الإعتبار أن العسكري ممنوع أن ينكسر. هذه هي القاعدة التي يحفظها ويشعر بها. لهذا يفترض ألا يواجه مواقف عنفية مع الشعب. عليه أن يتراجع قبل هذه المواجهة من دون أن يُظهر أي إنكسار. ويساعده على هذا شكل “البلوك” الذي يأخذه مع رفاقه.
قوى الأمن الداخلي لا تندسّ سوى لمنع الشغب وليس لإحداث الشغب.
سؤالٌ آخر يُطرح، أين أخطأت القوى الأمنية وأين أصابت؟ العميد السابق يقول: إن الجهاز الدفاعي في رياض الصلح ضعيف. ويفترض بالقوى الأمنية أن تجعل الساحة خالية. أن تجعلها ساحة بلا استخدام لغيرِ التظاهرات السلمية. وأن تضع ثلاثة أو أربعة حواجز تحول دون الوصول إليها بسهولة. ساحتا رياض الصلح والشهداء خطرتان.
هناك ساحات خطيرة على المتظاهرين وهناك مناطق خطيرة على القوى الأمنية. الخندق الغميق واحدة منها. فهل طبيعي أن تبقى عصيّة على الدولة؟ يجيب بجاني: العسكريون لا يقومون بعمليات أمنية، تستغرق أكثر من ست ساعات، حيث يريدون أن يعودوا ويغادروا. ثمة أماكن يُكبّد البقاء فيها تكلفة عالية.