الثورات في العالم عادة ما يُنظر اليها كمثال أعلى من الشعوب الرازحة تحت الظلم بوجوهه المختلفة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وعادة ما كانت محط دراسة المؤرخين، لما تحمله من سمات تغييرية لبناء مستقبل مختلف، قائم على العدالة الاجتماعية والتحسّن المعيشي.
هذا النمط من الحالات ينطبق على انتفاضة 17 تشرين، التي انطلقت نتيجة أزمة اقتصادية ومالية صعبة لم يشهدها لبنان قبلاً، فجرّت الشارع في وجه الفساد الكبير. ومع دخول هذه الانتفاضة شهرها الرابع، كيف يمكن وصف سلوكياتها مساراً وعناوين؟ هذا المشهد يفرض الإضاءة على بعض الثورات في العالم وسلوكياتها، لفهم الفارق بينها وبين الذي يحصل في لبنان.
من أشهر الثورات التي طبعت الوجدان الإنساني، وكان للعنف التأثير الكبير في تحقيق غايتها، هي الثورة الفرنسية التي يعتبرها المؤرخون واحدة من أهم الأحداث في تاريخ البشرية. هذه الثورة التي امتدت نحو 10 سنوات، قُتل فيها ما بين 16 ألفاً إلى 40 ألف مواطن فرنسي في الفترة الممتدة بين 1793 و1794 فقط. وانتهت بتحقيق الجمهورية.
أما «الثورة الهاييتية» أو ما يُعرف بـ«ثورة العبيد»، فتشير التقديرات إلى أنّها خلّفت نحو 100 ألف قتيل من السود، و24 ألفًا من البيض. لكنها انتهت بتحقيق استقلال البلاد عام 1804.
«الثورة الأميركية» التي حققت انتصاراً كبيراً عام 1787، بالاستقلال عن الامبراطورية البريطانية. إضافة الى «الثورة الروسية»، و«الثورة الإسلامية» في ايران وغيرها.
الثورات الحديثة في العالم العربي، انطلقت عام 2010، على إثر اندلاع «الثورة التونسية» و»نجاحها بدعم من الجيش»، بالاطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي.
بعد الثورة التونسية نجحت الثورة المصرية بإسقاط الرئيس السابق حسني مبارك، ثم الثورة الليبية التي قُتل فيها أكثر من 50 ألف شخص، وانتهت بمقتل معمر القذافي وإسقاط نظامه. الى الثورة اليمنية التي أجبرت علي عبد الله صالح على التنحّي، ثم الثورة السودانية التي أسقطت عمر البشير. الى الثورة السورية، التي تحوّلت أيضاً ثورة مسلحة، استطاع النظام السوري بتحالفه مع روسيا وايران محاصرتها وقمعها.
وسادت الاحتجاجات السلميَّة، المُطالبة بإنهاء الفساد وتحسين الأوضاع المعيشية، بل وأحياناً إسقاط الأنظمة، بالانتشار سريعاً في أنحاء الوطن العربي، فبلغت الأردن والبحرين والجزائر وعُمان والكويت والمغرب وموريتانيا والعراق وصولاً الى لبنان.
لبنان… والمنحى العنفي
السؤال الذي يتردد هذه الأيام في لبنان، هل استمرار «السلمية» يخدم الهدف أم العنف؟ هل العناوين المطلبية لا تزال صالحة؟ وكيف يمكن وصف سلوك الانتفاضة بعد مرور أكثر من 100 يوم على انطلاقتها؟
تحكم لبنان معادلة التنوع الطائفي، وهذا العامل قد يكون عاملاً سلبياً في لحظات استمالة فئات معينة من الشعب الى الثورة، ما جعل الرأي السائد لدى كثير من المفكرين ينحو الى عدم انزلاق الانتفاضة نحو العنف، وهو امر تمّت مناقشته في جلسات فكرية متعدّدة، لأسباب عدّة:
ـ أولاً، سلبية التأثير العامودي الموجود في الطائفة على قواعدها، وهو كفيل بإجهاض، أو اقلّه إضعاف أي ثورة أو حركة إحتجاجية، إذا اقتنعت هذه القواعد بأنّها معرّضة في أمنها وخصوصيتها الوجودية.
ـ ثانياً، التأثير السلبي العامودي الموجود لدى الأحزاب والتي في غالبيتها طائفية، ولا تختلف معظمها في الممارسة عن سلوك الطائفة.
ـ ثالثاً، اذا كان الهدف طمأنة القواعد، فهذا يحتّم التمسّك بسلميّة الحراك. فالحصول على استعطاف في البيئة الشيعية مثلاً، وتحديداً في بيئة «حزب الله» وحركة «أمل»، يحتّم الخيار السلمي، لأنّ انحراف الثورة الى العنف هو أمر يطلبه «حزب الله» لتبرير قمعه لها، وشيطنتها بثوب التطرّف والعصبية، وهو الذي له جولات وصولات في محاربة الثوار السوريين بعد جرّ النظام السوري الثورة الى مجموعات عسكريّة، ووصفهم لاحقاً بالإرهابيين، ما برّر شرعية تصفيتهم عسكرياً وسياسياً.
ـ رابعاً، نجاح أي حراك شعبي ضد المنظومة الحاكمة لا يتحقق إلاّ إذا حصل على دعم وتغطية من المؤسسة العسكرية، على غرار ما حصل في تونس، وهو أمر غير متوافر في لبنان. وبالتالي، فإنّ نسبة استعطاف الثوار للقوى الأمنية، تبقى ضئيلة في حال استخدام العنف، وترتفع بمقدار ما يتمسكون بالسلمية سبيلاً.
ـ خامساً، يرى عدد من المفكرين، أنّ في ظل انعدام الكفاية العسكرية، فإنّ السلمية تؤمّن التوازن في المواجهات بين سلطة مسلّحة وحراك أعزل.
في المنحى النفسي والسوسيولوجي، أبرز السمات الايجابية التي اتسمّ بها الحراك، هي:
- مشاركة المرأة، وتدلّ الى تمدّد دورها الى مختلف المجالات.
- وجود شرائح من أعمار مختلفة. وفي هذا دلالة الى وجود وعي عام حول مشكلاتنا.
- نزول الناس من كل الطبقات الاجتماعية والاقتصادية.
- ظاهرة التصعيد في اللهجة لإيقاف النزف، وايجاد حلول بطرق تختلف عن تلك التي اعتاد اللبناني عليها.
- حراك عابر للطوائف ورفض التبعية للزعيم، والإصرار على التغيير الجذري.
تقول أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتورة أديبة حمدان لـ«الجمهورية»، إنّ «الحرمان بما يمثله من عنف مادي ومعنوي تعرّض له اللبناني تاريخياً، يؤسّس لمظاهر عنف، لأنّ البيئة الاجتماعية محفّزة لذلك، والظروف الاقتصادية والتنموية المتدهورة تهيئ لذلك. فالمجتمع اللبناني مريض، وغياب الدولة والسياسات كفيل بتأزيم النفوس وخلق حالات اجتماعية صعبة».
من جهتها، تقول الكاتبة والأستاذة الجامعية الدكتورة منى فياض لـ«الجمهورية»: «ليس شرطاً أنّ كل ثورة يجب ان تقلب الدستور. السياسيون بعد عام 2005 اعتدوا على الدستور والقوانين، وخرجوا بمفاهيم سياسية جديدة كـ«الديموقراطية التوافقية» وغيرها، وبالتالي اللبناني يريد اليوم ان يسترجع دولته ومواطنيته. اللبنانيون يطالبون بالعودة الى «اتفاق الطائف» والدستور. وستستمر هذه الثورة حتى استعادة الدولة من خاطفيها. فنحن كنا تحت الاحتلال السوري واليوم اصبحنا تحت الاحتلال الإيراني».
وانطلاقاً من ذلك تضيف فياض، «يرفض عدد ممن هم في الشارع تحميل الانتفاضة عناوين كبيرة، كسلاح «حزب الله» و«هيمنة الحزب» على الدولة، علماً انّهم ضمنياً يؤمنون بأنّه «الطرف الذي يغطي الفساد بشكل أو بآخر»، لذلك يعتبرون «أنّ تحقيق مطالب الثورة الاجتماعية ستنتهي حكماً بكسر هيمنة الحزب على القرار اللبناني الرسمي». في حين انّ هناك رأياً آخر، تؤيّده فياض، وهو «جرأة رفع العناوين السيادية الكبرى في الثورة، لأننا لن نتطور، إلى حين الوصول الى الوقت الذي يتجرأ فيه جميع اللبنانيين بإعلان موقفهم من «حزب الله»، وهو أمر سنصل إليه حتماً ولو تطلّب وقتاً».
لكن فياض تشدّد على أنّ «هذا لا يعني انّه يجب الذهاب الى خيار العنف. فثورة 17 تشرين حصلت على التأييد العالمي لأنّها سلمية».
وشرحت «أنّ هناك بعض الناس يريدون تحقيق الإنجازات سريعاً باستخدام العنف وسيلة، وهذا خطأ، فنحن لسنا ولن نكون اقوى من «حزب الله» والدولة في المواجهة العنفيّة. فانزلاق الثوار الى العنف سيعطيهم ذريعة للردّ بنحو أقوى ومفرط، والى معركة غير متكافئة. لذلك، فإنّ «السلمية» هي نقطة ضعف فريق السلطة ونقطة قوة الثوار».
على انّ الدكتورة حمدان تختم بتمنٍ: «يجب عدم إضاعة الفرصة لخلق مواطن لبناني داخل لبنان، والكف عن بناء لبنانيين خارج لبنان ضمن ظروف قيمية واجتماعية لا تشبهنا».