IMLebanon

المواجهة بين “الأمن” و”الثورة” لن تكون الأخيرة!؟

اياً كان شكل المواجهة المتوقعة اليوم في بيروت بين «الأمن» و»الثوار»، فهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. فرغم أشكال جدران العزل من الباطون المسلح وتلك التابعة للقوى العسكرية و»الثورة» التي ستُبنى اليوم لتسهيل وصول النواب الى ساحة النجمة أو عدمه، فإنّ الحكومة ستنال ثقة المجلس النيابي من دون ما يضمن تجاوز الأزمة الخانقة. وعليه، ما الذي يقود الى هذه المواجهة المفتوحة؟

يقرّ القادة العسكريون والأمنيون ومعهم سياسيون ومراقبون من مختلف المواقع، بنجاح السلطة في تحويل المواجهة المحتملة في بيروت بين الجيش والقوى الأمنية من جهة والثورة بكل أشكالها والوانها من جهة أخرى. فالتمهّل في التعاطي مع الإستحقاقات الدستورية لم يكن تعبيراً عن العجز فحسب، بمقدار ما كان الهدف منه إبعاد الوسط السياسي عن المواجهة.

 

فقد توافر الوقت الكافي لتغيير قواعد الإشتباك بين العهد والمعارضة، والسوق في اتجاه اعتبار الحدث شأناً أمنياً بحتاً، بات فيه المنتفضون «المشاغبون» و«المخرّبون» في مواجهة القوى العسكرية والأمنية المكلّفة استعادة هيبة الدولة المفقودة وحماية المؤسسات العامة والخاصة ووقف اعمال الشغب، الى ان تأتي الأيام بما يمكن من حلول ومخارج توفّر آلية الخروج من مسلسل المآزق المفتوحة على شتى الإحتمالات السلبية قبل الإيجابية.

 

على هذه الخلفيات، وفي موازاة السعي الى تغيير قواعد الإشتباك الداخلية وحرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية للإنتفاضة الشعبية، فقد باتت المواجهة أمنية بامتياز. وهو اسلوب اعتُمد من اجل خنقها او حصرها، بما يتلاءم وقدرات الدولة ومؤسساتها على المواجهة وحماية المواقع التي يشغلها أهل الحكم. فقد كان واضحاً انّ اولوية اهل الحكم كانت إعادة لملمة قواهم في مواجهة الجرف الذي تسببت به الثورة في أكثر من منطقة، وحيث لم يكن متوقعاً ان تُقطع طريق او تُوجّه الدعوة الى عصيان.

 

ومن هذه المنطلقات بالذات، لجأت السلطة الى مجموعة من الخطوات التي ساهمت في تحقيق نوع من التوازن الذي فقدته لفترة من الزمن في مواجهة الانتفاضة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

– إعتبار مطالب الثورة هي نفسها من شعارات العهد والأحزاب المساندة له، وانّ على قادتها تصويب اهدافها وضمّ جهودهم الى أهل الحكم من اجل تجاوز المرحلة، شرط عدم المس بمواقعهم التي نالوها في مرحلة من التسويات ـ الصفقات التي عُقدت في غفلة من الزمن، وهي مواقع ما لبثت ان تهاوت لمجرد انّها بُنيت على قاعدة تقاسم الوزارات السيادية والخدماتية والمواقع «المدهنة»، لتعزيز السطوة من دون النظر الى ما يمكن ان يتحمّله هيكل الدولة وخزينتها التي انهارت بين ليلة وضحاها.

– المماطلة التي اعتُمدت عقب الانتفاضة واستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وما تبعها من محاولات التأليف، التي «بلعت» مجموعة من المرشحين، الى ان وصلت الإستشارات النيابية الملزمة الى الرئيس حسان دياب. فهو شكّل «الورقة المستورة» لأهل الحكم التي أُبعدت عن كل اشكال واصناف المحاكمات التي خضع لها المرشحون الآخرون الذين سبقوه دون الوصول الى السراي الحكومي.

– الإيحاء أنّ الحكومة الجديدة هي وليدة الثورة وابنتها البكر، من اجل تطويع الإنتفاضة وتسييلها، بعد أن نجح البعض في ركوب موجتها لتحوير أهدافها واقتيادها الى مكان يكون من السهل تحميلها مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع في البلاد بكل ما رافقها من تقنين نقدي وأحداث أمنية وعمليات انتحار وحالات انسانية لم يشهدها لبنان من قبل. كذلك تحميلها مسؤولية إحياء الفتنة المذهبية التي بدأت تطلّ بقرنها من مناطق حساسة في بيروت ومناطق أخرى، وصولاً الى اتهامها بمحاولة الإنقلاب على الشرعية الدستورية.

 

لا يستطيع أي مراقب نفي هذه القراءة بتسلسل احداثها او التقليل من اهميتها، وهي آلية اعتُمدت لتبرير الوصول الى ما نحن عليه وما ستكون عليه المواجهة اليوم. فكل التمهّل في معالجة الأزمة والتباطؤ الذي اعتُمد في مواجهة الإنتفاضة في ايامها الأولى، وبعد استقالة الحكومة السابقة وفي عملية التكليف والتأليف، وما بين التأليف وإعداد البيان الوزاري وجلسة الثقة، وكأن البلد في وضع طبيعي يحتمل بطء المعالجات.

 

فبدلاً من ان تعلن السلطة حال الطوارئ على كل المستويات تجاه ما استُجد منذ اندلعت الإنتفاضة غير المسبوقة، وما بلغته الأزمة بوجوهها الخطيرة، بقي المسؤولون يتريثون في اتخاذ الإجراءات. فقد ظهر انّهم يحترمون عطلة نهاية الأسبوع والأعياد اكثر من قبل، بدل إطلاق المبادرات السريعة التي تستدعي جهداً إستثنائياً وإضافياً، يصلون من اجلها الليل بالنهار لتوفير المخارج والحلول للأزمة القائمة بالسرعة التي تستدعيها خطورة المرحلة دون التسرّع. وهو امر لا يمكن تفسيره في اي قاموس يمكن اللجوء اليه.

 

وبعيداً مما ستكون عليه أحداث اليوم، وما حضّره طرفا المواجهة لمواكبة جلسة الثقة بالحكومة وبيانها الوزاري، فإنّ الواضح هو انّ بيروت ومنذ الليلة الماضية، تحوّلت مجموعة من «الحصون المقفلة» بفعل مجموعة «جدران الفصل» التي بُنيت حول ساحة النجمة من الباطون المسلح، قبل ان تُبنى الجدران الأخرى التي شكّلتها القوى العسكرية والأمنية كما قوى الإنتفاضة، التي توزعت المهمات لمنع وصول النواب الى ساحة النجمة. فإذا بها تتحول أطواقاً بعضها يطوق البعض الآخر بأشكالها العسكرية والمدنية.

 

وبناءً على كل ما تقدّم، لا بدّ من الإشارة الى انّ المواجهة المتوقعة اليوم، واياً كان شكلها وما يمكن ان تؤدي اليه، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. ورغم انّها ستسمح بنيل الثقة مهما كانت هزيلة، فإنّها لن تقود الى تجاوز الأزمات، وهو ما يوحي بالأسوأ المُنتظر. فالنقاش يشهد حماوة بين اهل الحكم حول طريقة ترميم العلاقات بين لبنان والخارج وحول سياسة «النأي بالنفس» وطريقة التعاطي مع إيفاء الدولة ديونها الخارجية المتأتية من سندات «اليوروبوند» او غيرها. ومردّ ذلك، الى أنّ ما هو مطلوب مالياً كبير وثقيل، يفرض توفير ما يقارب 9 مليارات دولار قبل حزيران المقبل، في ظرف قد يفتقد اللبنانيون الدولار والعملات الصعبة قريباً. وهو ما يقود حتماً الى تجدّد الإنتفاضة بوجوهها الجديدة والخطيرة والشاملة، خصوصاً عندما تكتسب صفة «ثورة الجياع». ولذلك، فكل ما سنشهد عليه اليوم سيشكّل جولة من جولات المواجهات الطويلة المدى، الى موعد لا يستطيع أحد ان يتحكّم او يتكهن به من اليوم.