بين الناس وأهل السياسة هوة عميقة. هذا ليس جديداً. إلاّ أن حسن الظن اتجه الى 17 تشرين وما بعده، اعتقاداً بأنَّ الحدث اللبناني الكبير من شأنه أن يفتح أعين السياسيين على الحقيقة التي فرضت ذاتها في الشارع… ولكن «فالج لا تعالج». وأيضاً «من شبّ على خلقٍ شاب عليه». وأيضاً وأيضاً: «الطبع غلب التطبع»: فالهوة التي كانت سحيقة الأغوار قبل الثورة باتت بعده بلا قعر…
… وإلاّ كيف نفسّر ما لا يزال يدور على الساحة السياسبة من مماحكات وتذاكٍ وكأنّ شيئاً (وأي شيء؟!) لم يحدث في هذا البلد المنكوب بأولياء أمره من قادة وزعماء ومقامات!
يتصرف أهل السياسة، في معظمهم، وكأنّ الثورة قامت لتكرّسهم في مواقعهم. ولتكرّس انتدابهم على الشعب، وعلى البلد في مقوماته كلّها.
ولو كانت هذه الطبقة البائسة من أهل السياسة قد أنتجت ازدهاراً واستقراراً واطمئناناً على المصير لكنّا أقمنا لها النصب في القلوب إن لم يكن في الساحات والشوارع و.. حتى الزواريب. أمّا وأنها لم تنتج سوى البؤس والشقاء والفقر والعذاب والاضطرابات والقهر والنزف المتواصل في الهجرة، وأخيراً في وضع الحواجز بين المودعين ومدخراتهم التي أودعوها صناديق المصارف… فهذا لا يمكن أن يشكل لهم (أهل السياسة) أي عذر تخفيفي أو سبب ليواصلوا هذه الأجواء المشحونة…
ولقد حاول هؤلاء أن يركبوا الموجة، أن يتسلقوا على انتفاضة الشعب، أن يستغلوا المطالب المشروعة، أن يدّعي كل منهم أنه أم الثورة وأبوها… ولحسن الحظ وبفعل وعي الناس الثائرين فقد باءت هذه المحاولات بالفشل، ولفظتهم الثورة خارجها!
ومع ذلك لم يرعووا ولم يرتدعوا، فما أن ينتهوا من جولة تواشيح ضدّ بعضهم البعض حتى يطلعوا بجولات، وفي كلّ مرّة نبش الأحقاد والقبور… وأنا فوق وأنت تحت… وأنا عملت وأنت لم تعمل… وأنا نفذت وحققت وأنت قصّرت!
ويا ليتهم يستخدمون مثل هذه التعابير المنضبطة، بل كثيراً ما يلجأون الى الكلام الهابط، والنكات السمجة الخ (…).
إنه زمن رديء بكل ما للكلمة من معنى زمن الليالي الظلماء التي نفتقد فيها بدوراً وليس بدراً واحداً… تلك البدور التي أنارت الظلمات وأنتجت وطناً مزدهراً رائداً في منطقته والعالم.
واليوم ندرك جيداً لماذا شنّ الآخرون حروبهم على لبنان… لنبتلي بهذه الطبقة التي تتحكم بشؤون وطن كان زينة البلدان… فاتخذ القرار بإنزاله عن عرشه!