ما الذي يجمع اليوم بين قطبين رئيسيين في البلاد، لا يقربهما مشترك مع التناقض الجذري في الإيديولوجيا والسياسة أدى بهما الى نزاع عسكري طويل وتعارض عميق حول خيارات لبنان عبر التاريخ؟
إنه السؤال الذي يطرحه كثيرون ومناسبته اللقاءات التي تجري بين «حزب الكتائب» و«الحزب الشيوعي اللبناني»، والتي كان آخرها مبادرة الأول لزيارة الثاني قبل أيام.
ومن المفارقات أن الطرفين هما على النقيض في العقيدة التي يمثل «الكتائب» يمينها، أحيانا المتطرف، و»الشيوعي» يسارها، أحيانا الراديكالي، ما دفع بهما الى تزعم المعسكرين اللبنانيين الرئيسيين المتواجهين مع بداية الحرب الأهلية.
إرث الماضي
في ذلك الحين، شكل «الشيوعي» رأس حربة مشروع اليسار و»الحركة الوطنية اللبنانية» بزعامة كمال جنبلاط. كانت قوة الحزب حينذاك في علاقته العضوية مع المعسكر الاشتراكي بزعامة الإتحاد السوفياتي، في زمن المد القومي اليساري، وذلك قبل تجريد الأحزاب الطائفية والمذهبية الحزب من خزانه البشري وانكسار مشروع اليسار أمام السيطرة السورية في لبنان.
في المقابل، لم يكن «الكتائب» أفضل حالاً. وبعد أن شكل الحزب العمود الفقري للمشروع اليميني على الساحة المسيحية وفي إطار ما عرف بـ»الجبهة اللبنانية»، سقط ضحية انقسامات الصف الواحد وتراجع مع السنين ثم تعرض لضربة كبيرة مع نفي زعيمه الرئيس أمين الجميل من لبنان في فترة الحكم السوري و»تقسيم» الحزب الذي كان معارضا بشدة لهذا الحكم.
والواقع أن الجانبين عانيا كثيرا في العقود الماضية، ومع أن «الكتائب» قد حفظ رأسه والحد الأدنى من وجوده المسيحي وأعاد لم شمله، كان الأمر أكثر صعوبة بالنسبة الى «الشيوعي» الذي انكفأ حتى عن عمله المقاوم قبل أن تخرج منه شرائح يسارية شكلت بعدها مجموعات إنضوت في قوى ما عرف بـ»14 آذار»..
تحالفات على «القطعة»
إستمر الجانبان على النقيض: «الكتائب» تابع معارضا شرسا لقوى «8 آذار» ولسلاح «حزب الله»، وصُنف «الشيوعي» ضمن إطار «الممانعين» في لبنان والحلفاء لـ»حزب الله»، برغم نفي «الشيوعي» لذلك.
على كل حال، وبرغم استمرار هذا التناقض العميق، والذي أسقط نفسه على جملة من القضايا أهمها خيار المقاومة وطبيعة «القضية» عبر تحديد هوية العدو، ومعهما طبيعة النظام السياسي والاقتصادي للبنان، تحالف الجانبان في بعض المراحل «على القطعة» وكان أهم التحالفات تلك التي واجها فيها هيمنة قوى السلطة على الحياة النقابية في البلاد.
وتواصلت تلك التحالفات في مرحلة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان وخلال المراحل التي تلته صولا الى الحدث المزلزل الذي هزّ البلاد منذ 17 تشرين الأول 2019. والواقع أن ما حصل قد دفع بأطراف كثيرة مؤيدة للانتفاضة الشعبية الى التلاقي وهو حال هذين الحزبين.
فرصة الإنتفاضة
لم تمنع الطبيعة المختلفة لكل منهما من محاولة مد الجسور على أساس مشترك هو رفض السلطة الحالية ودعم الانتفاضة الشعبية، وإن إحتفظ كل طرف بوجهة نظره في كيفية مقاربة أمور النضال ضد السلطة السياسية.
والحال أن الانتفاضة الشعبية أبرزت دور «الشيوعي»، العلماني، الذي تبنى حتى التماهي شعاراتها العابرة للطوائف، علما أن تحركات نقابات الحزب لم تتوقف في سبيل القضايا المطلبية حتى تاريخ تفجر الانتفاضة.
«الكتائب» من ناحيته، «الكياني» لكن المُتهم دوما بطائفية كامنة ولو لم تظهر الى العلن، إنخرط في الحراك الشعبي بعد قليل من اندلاعه، لكنه ظل مرفوضا من شرائح واسعة منه بوصفه شكل على الدوام في مراحل التاريخ اللبناني ركنا من نظام طائفي تحاصصي مكروه.
ربما هذا ما دفع الحزب اليميني إلى محاولة تعزيز شعارات رئيسه النائب سامي الجميل التي أغرت فعلا كثيرا من اللبنانيين، ليلتمس ربما شرعية ثورية من حزب اليسار الذي بالكاد حفظ وجوده من السقوط في هذا العصر.
طوي الصفحة؟
هو لم يكن اللقاء الأول بين الجانبين في الفترة الاخيرة، لكن رمزية ما تكمن في مبادرة «الكتائب» لزيارة «الشيوعي» في مرحلة توهج حراك شعبي في وجه السلطة.
إنها صفحة من الماضي وقد انطوت على حد تعبير القيادي «الكتائبي» سيرج داغر الذي يلفت الى أنه أمر طبيعي: لا نستطيع أن نبقى في سجن الماضي وكان يجب أن نتخذ القرار إذا كنا نريد أن نتطلع الى المستقبل.
لا يتوقف داغر عند تناقض بين اليمين واليسار: كان لدينا الريادة تاريخيا في قضايا تهم اليسار مثل قانون العمل والضمان الاجتماعي والمرأة وغيرها من القضايا.. بالنسبة الى «الكتائب» فإن الحزب يريد الاشتراك مع «الشيوعي» في الشعارات الطبقية المشتركة ومنها النقمة على المصارف التي كنا قد حذرنا سابقا من أدائها.
على أن داغر لا ينفي الاختلافات بين الجانبين والتي هي محط نقاش عميق «إذ لا حوار إلا مع من نختلف معه». ولعل موضوع «السلاح» هو الأهم على طاولة هذا النقاش ومعه هناك مسألة المقاربة الإقتصادية التي مهما كابر فيها كل من الجانبين، إلا أنها ستبقى محط تناقض بين منبعين على النقيض العقائدي.
لكن كان من أهمية الثورة الشعبية أنها قربت المسافة بين مثل هذين التيارين، ويؤكد داغر أن الثورة كسرت الحواجز. إلا أنه كان من الملاحظ أن الحضور على الارض يبدو لصالح «الشيوعي» أكثر منه لصالح «الكتائب». لكن داغر يرفض ذلك: إذا كان الأمر صحيحا جزئيا في بيروت، حيث نحتفظ بحضور في وسط العاصمة، لكنه ليس كذلك في مناطق كجل الديب والذوق، لكن المسألة تبدو غامضة أحيانا كوننا نزلنا الى الساحات تحت راية العلم اللبناني فقط.
على أن نضال الحزبين يختلف في الآلية والمبتغى. وبينما تظهر راديكالية متشددة لدى «الشيوعي»، يرى «الكتائب» أن هذا النضال يجب أن يتركز عبر البرلمان والمؤسسات. ويتوقف عند أن الثورة أعلنت في السابق ماذا ترفض، لكنها لم تحدد ما الذي تريده، وهو ما يجب أن يتوضح اليوم.
يريد «الكتائب» الانتقال الى مرحلة جديدة أكثر فاعلية وتحديد الأهداف، بينما يبدو «الشيوعي» رفضيا أكثر من كونه «براغماتيا».
وعلى ذلك يجيب القيادي الشاب في «الشيوعي» عمر ديب: نحن رفضيون لنظام سياسي فاشل أثبت عقمه حتى الآن ولا يستطيع الاستمرار سياسيا وإقتصاديا. ويضيف: لقد طرحنا برنامجا للتغيير الشامل وهو مشروع يضم برنامجا متكاملا يتضمن الشعارات والعناوين في سبيل التغيير المنشود.
يشير ديب الى أن «الشيوعي» استمع لمشروع «الكتائب» للتغيير من داخل الأطر البرلمانية «لكننا في موقف مختلف على صعيد آلية التغيير». لكنه يلفت الى «إنفتاحنا على الحوار فنحن لسنا أسرى الماضي»، وهو لا يلغي نقاط التقاء مع «الكتائب» «برغم أننا لسنا حلفاء». وينتقد بشدة «بعض الحاقدين الذين هاجموا لقاءنا مع الكتائب» ملمحا الى بعض قوى من «اليسار»، ومؤكدا أن «ليس هناك ما نخجل منه وهذه اللحظة مناسبة للتلاقي ونقاش ماهية الإصلاح والبلد الذي نريد».
والواقع أن من دواعي سرور «الشيوعي» أن يعود محط الأنظار بعد انخراط تام في الانتفاضة الشعبية، وخاصة في الجنوب، وقد كان من شأن ظهوره العلني في الأسابيع الاخيرة أن جعله مكان رغبة في التلاقي من قبل أحزاب متعددة المشارب مثل «حزب الله» وحلفاء له من جهة، و»الحزب التقدمي الإشتراكي» و»الكتلة الوطنية» من جهة أخرى.. وبعد تعرضه للقمع المعنوي وحتى التخوين بعد اندلاع انتفاضة الشارع، يبدو أن لقاءات «الشيوعي» قد أسست لما هو آت على صعيد علاقة بنّاءة مع قوى أخرى على الساحة كانت بعيدة عنه حتى الماضي القريب.