في موازاة السباق الى التبرّؤ مما حصل في بيروت السبت الماضي، ينمو حديث عن حجم المفاجأة التي قادت اليها أحداث الشغب ومحاولات إثارة الفتنة المذهبية لدى بعض الاوساط السياسية. وهو ما عدّ تبريراً سخيفاً لما صنعته المواقف التحشيدية. فباستثناء من دعا علناً الى الحراك واهدافه لا يحق لأحد الدفاع عما حصل، وخصوصاً الذين أثاروا الفتنة المذهبية التي شكّلت خطراً مضاعفاً. لماذا وكيف؟
قبل أن تستكمل شركة جمع النفايات أعمالها في وسط بيروت ومحيطها وما بين بربور وكورنيش المزرعة والشياح وعين الرمانة، وبعدما تقلصت مساحة انتشار العوائق والنفايات وبراميلها لتعود حركة السيارات والمشاة الى طبيعتها، كان مرجع أمني يتنفس الصعداء لأنّ ما حصل كان اقل مما كان متوقعاً قبل ان تغيب الشمس. ولكن هذا الشعور لم يدم طويلاً بعدما توالت المعلومات عما حصل في مناطق الطريق الجديدة وكورنيش المزرعة وبربور تزامناً مع احداث عين الرمانة والشياح، فتراجع الشعور بأنّ «القطوع» قد عبر، وهبطت المعنويات وذهبت التوقعات والقراءات الأمنية في اتجاه آخر.
وانطلاقاً من هذه الوقائع الجديدة بَدت كل التبريرات التي أطلقتها الجهات السياسية والحزبية التي حاولت التبرّؤ من شوارعها مغايرة للواقع، بعدما سبقتها الرسائل الصوتية والافلام القصيرة عبر شبكة الخلوي لتعطي الصورة الأوضح عمّا يجري على مظهرها المُشين. وظهر انّ معظم هذه المواقف هدف الى حرف الانظار عمّا هو أخطر من الازمة المعيشية والاقتصادية والنقدية وتداعياتها على حياة اللبنانيين، ولا سيما منها تلك التي تهدد بالفتنة السنية – الشيعية التي تنتظر على الأبواب. فاللبنانيون بغالبيتهم الساحقة بمَن فيهم من تسمّروا امام شاشات التلفزة في منازلهم على علم اليقين بكثير من الحقائق التي بات من الصعب تجاهلها او تغليفها بالبيانات المستنسخة منذ عقود. فقد فشل اصحابها في إثبات وجود «الطابور الخامس» الذي تسبّب بما حصل بين شارعي اسعد الاسعد وصنين كمثال لِما جرى، فهم يعرفون بعضهم بعضاً بالأسماء الى درجة باتت كل محاولات التعمية عليها من المهمات الصعبة، لا بل المستحيلة.
والى هذه المعطيات التي تغذيها التصريحات اليومية، تأتي التهديدات بمتغيّرات وانقلابات ليعتقد أصحابها أنها آتية لا محالة انعكاساً لما يجري في المنطقة. وكأنها من البديهيات التي أفرزتها احداث يعتقدون انها باتت من الثوابت التي لا يمكن تغييرها متجاهلين التحولات الدراماتيكية المتوقعة بين لحظة وأخرى. أضف الى ذلك ما تغذيه وسائل التواصل الإجتماعي من تحديات تلامس الشعور المناطقي والمذهبي الدفين الذي صَدحت به الحناجر، ما يؤكد انها ما زالت في النفوس ولم تمحها النصوص.
وعليه، وفي الوقت الذي أثبتت بعض قوى السلطة انها ليست على استعداد للتغيير في اي خطوة تحاكي شعور أكثرية اللبنانيين الذين يرفضون الواقع المالي والنقدي والاجتماعي والتربوي والمهني منذ فترة طويلة، ظهر انّ البعض منهم ليس معنياً بما حصل حتى اليوم واكتفى بتوجيه السهام الى مجهولين يقودون أعمال الشغب. ويرغبون في أن يقتنع اللبنانيون بأنّ ما هو مطروح من مطالب معيشية وسياسية جامعة ليست سوى واجهة لمشاريع خارجية معروفة الهوية وان تنقلت كل فترة من دولة الى اخرى وما بين جهاز مخابراتي وآخر.
والملفت انّ كل ذلك يجري على خلفية انّ ما جرى منذ 17 تشرين الماضي وحتى 6 حزيران هو مجرد نزوة سياسية عبّرت عنها مجموعات سياسية وحزبية ومن المجتمع المدني لم تغير شيئاً في أداء الحكم. وانّ في قدرة أهله المضي بما يريدون القيام به من خطوات تعزّز تقاسم النفوذ والمغانم أيّاً كانت النتائج المترتبة عليها.
ولذلك، لا تخفي المراجع الامنية التي شاركت في اجتماعات المجلس الاعلى للدفاع الخميس الماضي، قبل يومين على تحركات السبت، وعادت الى الاجتماع التقويمي في السرايا بعد ظهر الأحد، انّ كل ما حصل كان محسوباً وبقي ان يتيقّن القادة الامنيون المكلفون بأصعب المهمات الأمنية في قلب العاصمة متى وكيف وأين يمكن ان تكون المواجهة؟ بعدما قادت المواقف والشائعات الى ترتيب مساحة النزاع بين اكثر من طرف وشارع وقد سبقتهم موجات الشائعات والتحريض. فكلها كانت مرصودة كل لحظة بلحظتها بلا شيفرة ولا ألغاز.
ولذلك لا تخفي هذه المراجع انّ ما تسرّب منها كان كافياً لإشعال البلد كاملاً، ولا تقف المستجدات المتوقعة على زاروب او شارع. ففي علم المعنيين انّ كل هذه المداخلات الخلوية المرصودة سمحت بالاطّلاع مسبقاً على كل الشعارات والصيحات المنظمة قبل رفعها. ولذلك، كانت الصورة واضحة خصوصاً انّ التشنّج القائم في الشارع مَهّد لفهم خلفياتها ومعانيها العميقة. فهي في شكلها ومضمونها وتوقيتها تنضح بما يؤدي الى إلهاب المشاعر والعواطف وتلغي ما يقول به العقل مهما كان متحرراً. وان اعتقد البعض ممّن تبادلوا التعليمات والشعارات عبر «الواتس آب» وتحديد مواقع التجمّع كما رسمت، انّ محوها لاحقاً من أجهزتهم الفردية قد يخفيها، فإنّ عليهم التثبّت من انّ هذه الاساليب لا تلغي وجودها كاملة لدى شركتي الخلوي ولدى من يمكنهم الوصول اليها.
وتضيف المراجع، كنّا على عِلم بتحركات ونيات كل مجموعة، وتمكنّا من مواكبتها سواء تلك التي انطلقت من البقاع او الشمال او التي كانت تتنقّل بين بيروت والضاحية الى ان وقعت المواجهات. وكان طبيعيّاً انّ الحضور الميداني للقوى العسكرية والأمنية لربما لم يكن كافياً في الدقائق الاولى لأيّ مواجهة، لكنّ حضورها لاحقاً كان قادراً على لجم ما حصل.
المعلومات الأمنية التي تجمّعت في اليومين الماضيين حول كثير مما جرى تدلّ في النتيجة الى ضرورة تخفيض منسوب التوتر السياسي، وهو ما قارَبته الحركة التي شهدتها عين التينة والضاحية الجنوبية و»بيت الوسط» وكليمنصو أمس الأول. ولكن النتائج الاولية توحي بصعوبة تطويق ما جرى الى درجة عدم احتمال وقوعه في أي لحظة. فالمراجع الأمنية تدرك حجم التطورات الاقليمية والمواجهة القائمة التي اراد البعض ان يَضمّ الساحة اللبنانية الى ساحاتها. ولكن من المهم جداً وقف محاولات التعبير عن «الصدمة» او «المفاجأة» ورفع المسؤولية عمّن يدير هذه الاحداث ووقف اختلاق الأعذار والبحث عن طابور خامس إعلاميّاً كان او سياسيّاً لإخفاء هوية المسؤولين. فلم تعد هناك اسرار مخفية على أحد، وانّ تحميل المسؤولية لجهات غير تلك المتورطة مباشرة في هذا النزاع لن تنطلي على اللبنانيين من الآن وصاعداً.