“فوكوياما يخترق حظر التّجوال، جاهداً في سحب كتاب” نهاية التّاريخ من الأسواق. وماركس ينهض مربكاً حول مصير الحتمية التاريخية. والكهنة والمفتون يبحثون عن منقذ في بطون النصّوص”. هذا النص الجميل والغني قرأته على صفحة علي طرابلسي الذي حفزته أحداث العالم على التفكير. ليس مهماً حجم الحقيقة التي ينطوي عليها، مقارنة باستنتاج توصل إليه بيان موقع من سبعة وخمسين حزباً شيوعياً في العالم، مفاده أن “تجربة اليوم تكشف عن طبيعة الرأسمالية الطفيلية والمناهضة للمجتمعات البشرية، وتُبرز تفوق الاشتراكية وراهنيتها”. الفارق بين الاستنتاجين أن هذا المناضل يفكر، فيما تطمئن تلك الأحزاب إلى يقينياتها وتنام على حرير تفوق الاشتراكيات المنهارة.
الكورونا وباء، لكنه في الوقت ذاته اختبار لطرق تفكيرنا بهذا الوباء. ولا أقصد هنا ظرفاء تعاملوا بمرح وابتكروا طرائف، أو كثيرين استخفوا به في البداية، أو من تاجر بالمرض والموت، أو من بادر إلى تنظيم أطر للتضامن، الخ… بل أقصد من لم يشكل الوباء عنده أي حافز على التفكير واستسهل تصديق أي خبر أو أي إشاعة متداولة عن المؤامرات الوبائية، أو من تحول فجأة إلى خبير استراتيجي في علم الأوبئة.
الأهم من البحث عن حلول وأجوبة، هو البحث عن أسئلة طرحها الوباء على البشرية، كالسؤال عن سبب التفاوت في طرق المعالجة بين الشرق (الصين وكوريا) والغرب (أوروبا وأميركا)، أو عما إذا كان الأمر يتعلق بالمنظومة الاقتصادية أو السياسية أو الأخلاقية، أو السؤال عما سيتغير ويتبدل في هذه المنظومات بعد الانتصار على الوباء.
جاك أتالي، الاقتصادي والأستاذ الجامعي الفرنسي، يقول إن الطاعون قضى على ربع سكان القارة الأوروبية في القرن الرابع عشر، وكان سبباً في زعزعة السلطة السياسية والدينية للكنيسة، بعد أن فشلت هذه في توفير الحماية لحياة الناس. أبدع العقل البشري البدائل: العلم ولا سيما الطب، ودولة الحضارة الرأسمالية وركيزتها الأساسية حقوق الإنسان والحرية. لقد كان من الطبيعي أن ينقلب المجتمع على منظومة القيم السياسية والثقافية حين تبدو عاجزة عن حماية حياة البشر.
الكورونا كشف عن مفارقات عديدة. الشرق الأدنى لا يزال يرزح تحت سطوة الجهالة الدينية التي تحاول مجابهة الكورونا بالأدعية والصلوات وترى الوباء غضباً ربانياً. فهل سيفعل الكورونا في بلادنا ما فعله الطاعون في أوروبا قبل قرون؟ أما الصين فقد حاصرته بالعلم وبدولة الطاعة لا بدولة الحرية وبنمط جديد من الاقتصاد خليط من الموجه والحر. على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، حيث منشأ الحضارة الرأسمالية والدولة الحديثة والعلوم الوضعية، احتاجت أوروبا إلى مساعدة الصين. هل يدل ذلك على وجود أعطال في آلة الرأسمالية أم أنها بلغت حدودها التاريخية؟
هل يمكن أن تعود الحياة بعد الكورونا إلى ما كانت عليه قبله؟ مستحيل ذلك. توهم بعضهم أن الاقتصاد الاشتراكي هو الذي مكن الصين وروسيا وكوبا من تقديم المساعدة للغرب الرأسمالي. والصحيح أن الفضل في ذلك يعود إلى المنظومة الأخلاقية الاشتراكية الأكثر حرصاً على حياة البشر من الرأسمالية، فيما مشاغل رأس المال محصورة في الربح وتكديس الثروة.
لن تنهار الرأسمالية. هي أمام امتحان صعب وقاس. لن تنجح فيه إلا إذا أعادت النظر بمنظومتها الأخلاقية. أما إعادة الاعتبار للفكر الاشتراكي فرهن بأمرين، اولهما العودة إلى ماركس العالم والفيلسوف لا إلى ماركس السياسي وقراءته بغير العين السوفياتية، وثانيهما إيلاء المزيد من الأهمية للسياسة والأخلاق، أي للبنية الفوقية، على حساب قوانين الاقتصاد، وكلا الأمرين صعب التحقيق على أحزاب تكرر خطاب الأممية من القرن الماضي.
إن حصل ذلك فهو ثورة على منظومة القيم في العالم. أما في لبنان فالثورة تنتظر نهاية الكورونا لتستأنف مسيرة الخلاص من نظام المحاصصة المافياوي الميليشياوي، ومن سلطة لا تفكر، وإن فكرت فبطريقة خاطئة فتشنّ حرباً على خيم الثورة بدل أن تواجه منظومة الفساد، ويشن فيلسوفها “بو رخوصة” هجوماً على ماركس بدل الهجوم على الفاسدين ممن ضبطهم ماركس، على بعد قرنين من الزمن، متلبسين بفضيحة سرقة المال العام.