في كلامي هذا ما قد لا يعجب البعض من ثوّار 17 تشرين الأول. ولكن لأنني أريد أن أكون أميناً لهذه الثورة الوطنية المجيدة، أشارك هذه الأفكار لا للحكم على أحد، بل لفتح الحوار حولها، لعلها تسهم في تزخيم النضال وتحقيق المَرجو.
عبّرت الثورة في بداياتها عن رأي عام تلاقى حول أربعة مطالب واضحة: إسقاط الحكومة، انتخابات مبكرة، محاسبة الفاسدين، استرجاع الأموال المنهوبة. أضاف البعض على هذه الأولويات تغيير النظام الطائفي. وعبّرت هذه المطالب مجتمعة عن فقدان كامل للثقة بالطبقة الحاكمة تحت الشعار الشهير: «كلّن يعني كلّن»!
حققت الثورة الهدف الأول وهو إسقاط الحكومة. واختار الثوار عدم المشاركة في الحكومة الجديدة، فعادوا إلى المربّع الأول: أي إسقاط الحكومة من جديد، حيث أنها مثل سابقاتها هي وليدة القوى السياسية ورهينتها، وإن لم يشترك الجميع فيها.
الكلّ ينتظر الآن عودة الثورة إلى زخمها. ولكن لكي لا تتحوّل إلى محاولة هزيلة لإحياء 17 تشرين الأول، أمامها ثلاثة خيارات أصبحت مُلحّة مناقشتها واعتماد واحد منها وما يترتب عليه من استراتيجية وتَبعات:
الخيار الأول: الثورة الشاملة بهدف إسقاط كل المنظومة الحاكمة واستلام الحكم.
الخيار الثاني: تحوّل الثورة إلى قوة معارضة سياسية تضغط على المنظومة الحاكمة وتنافسها على السلطة.
الخيار الثالث: البقاء في حالة الانتفاضة الشعبية غير المنظمة، بغية التعبير عن رفض الواقع الكارثي والانتقام من أدواته أشخاصاً ومؤسّسات.
الخيار الأول ينطلق من مبدأ عدم الانتظار من المرتكب محاسبة نفسه، وهم جميعهم مرتكبون مباشرة أو بالتواطؤ أو السكوت. يتطلّب هذا الخيار تعبئة واسعة للرأي العام من جديد وممارسة للعصيان المدني والإغلاق الشامل للبلاد حتى إسقاط كل المنظومة الحاكمة، وتسليم السلطة إلى مجلس انتقالي ينسّق مع الجيش والقوى الأمنية لضمان الاستقرار وإدارة المرحلة الانتقالية حتى تشكيل سلطة منتخبة ديمقراطياً. والأسئلة التي تطرح هنا: هل للثورة هذه القدرة في التعبئة على مساحة الوطن، وهي تفتقد لأطر تنظيمية وتنسيقية ولتنظيمات شعبية حليفة كالنقابات والمجموعات الحزبية الكبيرة؟ وهل الشعب مستعد بعد للتضحية ولديه مقوّمات الصمود إذا دخل في حالة عصيان وإقفال تام للبلاد؟ وهل يقبل الجيش في هذه الحال التنسيق مع الثوار لتأمين الغطاء الأمني والوطني لمرحلة انتقالية سليمة؟ وهل يتحمل «حزب الله» هذا النوع من المجازفة السياسية داخليّاً؟
الخيار الثاني يحتاج إلى وجود مجلس سياسي للثورة يعمل باتجاهين: من ناحية توجيه الضغط الشعبي المستمر على السلطة الحالية لتبنّي قرارات تأخذ بالاعتبار مطالب الثوار اقتصادياً وسياسياً؛ ومن ناحية ثانية التحضير للمشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة والسعي للفوز ديمقراطياً بالسلطة. والأسئلة التي تطرح هنا: هل يستطيع عدد كاف من المجموعات السياسية المنضوية ضمن الثورة الاتفاق على برنامج سياسي مشترك وخطة استراتيجية واحدة يعمل مجلس سياسي على تحقيقها؟ أم سوف تبقى غالبية هذه المجموعات راضخة لجزء من قواعدها الشعبية التي تتمسّك بالراديكالية الرفضية التي لا تحتمل المساومات السياسية الضرورية؟ عندما تفشل القاعدة الثورية في إنتاج قيادة لها، ألا يكون عندها المطلوب السير بالاتجاه المعاكس، أي أن تنبري مجموعة من النخَب في تبنّي مشروع الثورة وتشكيل جبهة قيادية تعمل للحصول على دعم الثوار في تمثيلها لمطالبهم أمام السلطة والرأي العام؟
الخيار الثالث يكون في عودة الثورة إلى حجم «انتفاضة» أو «تحركات شعبية» غير موحّدة الأهداف، تعبّر عن غضب الناس العارم من الظلم ومن عدم قدرتهم على تغيير واقعهم الأليم. فبدون قيادة سياسية معلنة تستطيع تجيير غالبية الثوار نحو استراتيجية موحدة، سوف يفرض هذا الخيار الثالث نفسه، وعندها تكون الثورة قد أخفقت في إنضاج نفسها سياسياً. والأسئلة التي تطرح هنا: هل قبول بعض الثوار بالعنف أو السكوت عنه كوسيلة للتعبير الثوري، فيه تغطية على فشل الثورة منهجياً وسياسياً؟ صحيح أن لا أحد منّا يمكن أن يُملي رأيه على الثوار، وصحيح أيضاً أنّ عنف أجهزة الدولة، الذي بدأ يأخذ أشكالاً مريبة من التوقيفات التعسفيّة وأخبار التعذيب وحتى القتل، هو الأسوأ والمطلوب إدانته باستمرار، لكن ألا يجرّ السكوت عن العنف الشعبي الناس نحو عبثيّة يدفعون هم ثمنها؟ أم أنّ هذه الراديكالية إلى حد العبثية تمثل فعلاً المسار الأقوى في الثورة، وتهدف إلى ضرب النظام الليبرالي الاقتصادي وقد يكون السياسي أيضاً في لبنان؟ ألا يجعل ذلك من الثوار أداة لتحقيق أهداف بعض الأحزاب الحاكمة في استعمال الواقع المأزوم كفرصة للانقضاض على ما تبقّى من الدولة ومن هوية لبنان، كوطن للتعدّدية والحرية؟