الزمن النصف الثاني من شهر أغسطس (آب) 2006، بعد «حرب تموز»، وبعد وقت قصير على وقف الأعمال القتالية، عندما أثار وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي مع رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة مسألة الخروج من المناصفة بين المسيحيين والمسلمين التي تقررت في الطائف، وباتت في الدستور، والذهاب إلى المثالثة (مسيحيين وسُنة وشيعة)، واستحداث منصب نائب رئيس للجمهورية. طبعاً يمكن تخيل الحوار الذي دار لأن السنيورة أبلغ متقي أنه من غير المستحب أن يتحدث للإعلام في السراي، وهكذا كان!
عملياً، تم طرح الموضوع الذي من شأنه أن يثير الاهتمام، ومع مرور الوقت جرى الترويج أن جهات رسمية فرنسية أثارت هذه المسألة مع الإيرانيين، فيما كشفت جهات رسمية لبنانية أن ما جرى هو العكس؛ أي أن طهران أثارت الموضوع مع باريس، مستندة إلى فائض القوة التي بات «حزب الله» يتمتع بها!
في عام 1989، وبعد سنوات من حرب مدمرة أزهقت أرواح نحو 150 ألف لبناني، وخلّفت دماراً لا حدود له، تم التوصل إلى «اتفاق الطائف»، أو وثيقة الوفاق الوطني التي تحولت دستوراً للبنان. تم تعديل النظام القديم، ووضعت أولوية تنظيم الآليات الدستورية أكثر منه تغييرها، والأبرز نقل السلطة التنفيذية من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء، وأقرت المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في البرلمان ومجلس الوزراء والمناصب العليا، بغض النظر عن أي تطور ديموغرافي. كما دعا الاتفاق إلى انتخابات برلمانية من خارج القيد الطائفي بعد ثاني انتخابات، وهذا لم ينفذ مع أنه أرفق بالدعوة إلى إنشاء مجلس شيوخ على أساس طائفي يضمن دور الجماعات الدينية بعد إلغاء الطائفية في البرلمان… كأساس للخروج من الطائفية!
بهذا المعنى رسمت وثيقة الوفاق الوطني المنحى لتطوير النظام السياسي بالذهاب إلى إلغاء الجذور الطائفية التي لحظها الدستور السابق والميثاق عام 1943. هذا المنحى الطائفي لم يكن وليد اللحظة الاستقلالية، بل يعود إلى مرحلة السيطرة العثمانية، وتحديداً المتصرفية التي أنشأت بعد عام 1860 مجلساً إدارياً خُصصت فيه مقاعد للطوائف الدينية الست الرئيسية بما يتناسب مع العدد الإجمالي للسكان.
من دون «اتفاق الطائف» كان يمكن للبلد الذي مزقته الحرب الأهلية، وعمّقت الانقسامات الطائفية فيه، أن يتفرق جماعات في مغامرات ومراهنات، ولا يمكن التبصر بالنتيجة. لكن تعثر التطبيق كان بالانتظار نتيجة الاحتلال السوري، ما أعاق إنتاج كتلة عابرة للطوائف، على غرار الكتلة التي تشكلت عام 1943، وخاضت معركة الاستقلال. في هذه المرحلة، فرض النظام السوري «قراءته» لتنفيذ الطائف، فارتبطت الحياة السياسية بعقلية الحرب الأهلية وأطرافها الذين لم يكن لهم من أولوية إلا تحسين مواقعهم المذهبية، وقد أدار المحتل توازناً بين الجانبين الأفعل، سنة وشيعة، على قاعدة التحريض والشكوك، ما زاد من التوترات!
جاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري لكي يرسم بداية غلبة، لأن القوى الطائفية التي هيمنت على انتفاضة الاستقلال خافت من شعبها، فتراجع الاتجاه الذي عبرت عنه المشاركة الكثيفة يوم 14 مارس (آذار) 2005، حيث كانت الآمال كبيرة بالذهاب أبعد من هزِّ النظامين الأمنيين في بيروت ودمشق، إلى التقدم باتجاه تكريس الدولة المدنية، فكانت الخيبة عندما اختارت القوى الطائفية توافقاً انتخابياً مع «حزب الله» وتقاسماً للحكومات، مفضلة تثبيت نظام المحاصصة الذي لم يعرف قبل عام 2005 السوء الذي بات عليه!
كانت سنوات الإحباط الذي أصاب أكثرية الفئات الشابة باليأس فاتسعت هجرة الكفاءات. الدستور معلق، والقوانين تطبق باستنسابية، والتقاسم بات علنياً بين الأطراف الطائفية المكونة لنظام المحاصصة الطائفي. الصفقات والحصص تجمع طرفي الانقسام الطائفي. ومنذ احتلال «حزب الله» للعاصمة بيروت في 7 مايو (أيار) 2008 واتفاق الدوحة، حلت الفتاوى مكان الدستور، من ثلث معطل في الحكومة ادعوا زوراً أنه موجود في وثيقة الوفاق، إلى إقفال البرلمان وتعطيل النصاب القانوني 30 شهراً، حتى فرض انتخاب العماد عون مرشح «حزب الله» رئيساً، والزعم أن تعطيل الحياة البرلمانية لا يتعارض مع الدستور والديمقراطية!
كان البلد ينهار، ومن ظن أن الوصول إلى طمر العاصمة وأهلها بالنفايات، كما كل المدن والمناطق، أمر لن يمر بسهولة، تفاجأ بموجة الإفلاسات، وما نجم عنها من بطالة منذ عام 2015، واللافت أن انتخاب رئيس للجمهورية لم يوقف التدهور، فكان التراجع الدراماتيكي في تصنيف لبنان الائتماني، والأكيد أن المعلومات كانت معروفة عن بلوغ المديونية أرقاماً فلكية، لكن خارج التحالف الطائفي الحاكم والكارتل المصرفي، لم يكن معروفاً أنه تم السطو على الودائع، وأن المقامرة شملت جني أعمار الناس!
وسط هذه الظروف، نزل الناس إلى الشوارع، وامتلأت الساحات، وصنع المواطنون «ثورة 17 تشرين» التي أطلقت دينامية جديدة وحّدت اللبنانيين، وتجاوزت الانقسامات الطائفية، وطوت صفحة الحرب الأهلية، وتمظهرت «17 تشرين» كلحظة تأسيسية عندما قدمت صورة أخرى عن مواطن لا يقبل القمع، ويرفض مصادرة العقل والإرادة والحرية. في الواقع، تقدم منحى الخروج المتمهل من الطائفية، وتخلخل نظام المحاصصة الطائفي، وليس أمراً بسيطاً استبعاد توزير رموز أساسية مثل جبران باسيل ومحمد فنيش، ممثلي العونية و«حزب الله»! الانهيار المالي والاقتصادي بدأ قبل الجائحة، ويتفاقم بعدها، والانهيار المريع في سعر الصرف بعد نهب الودائع دمر حياة المواطنين المتروكين بوجه المجاعة والجائحة! والسؤال على كل شفة ولسان: أين «ثورة تشرين» التي دخلت المنازل من أبوابها، ومحضها الناس كل الثقة، ووجدوا فيها كوة الضوء التي يمكن أن تتسع وتشمل كل جغرافيا البلد؟ ومتى تعود إلى الفعل لتضع البلد على طريق التغيير؟
قبل الجائحة، نشأت حالة تعثر وتراجع لأن العفوية الشعبية أدت خدمتها أكثر من شهرين، وقد استهدفت بالاعتداءات وبتخريب مبرمج لإضعاف الحضور الشعبي، العائلات والنساء، بحيث تقتصر التحركات على «مجموعات مناضلة». وتلا الجائحة منحى ترميم نفوذ القوى الطائفية المتهمة بالفساد، أُرفق بترهيب للثوار وضغوط الاستدعاءات. وبالمقابل، اتسعت أعداد المتضررين الذين خسروا كثيراً، ويسود الغضب الفئات العمرية ما بين سن الأربعين والتقاعد ممن فقدوا أعمالهم، ويتعذر عليهم الهجرة. ولأن السلطة ومرجعيتها (حزب الله) ليس في قاموسها التراجع ولا التخلي عن مكاسبها، ولا السماح للبنان بالخروج من محور الممانعة، فإنهم سيحمون طويلاً بقاء الحكومة الواجهة التي يتلطون خلفها، ولن يتأخروا عن وضع البلد على حافة احتراب بالتهديد بإلغاء «المناصفة» لفرض «المثالثة»، والهدف هو الهواء النقي الذي مثلته «17 تشرين».
هذا الوضع يستدعي أدوات جديدة قادرة على التعبئة والتجييش في مواجهة طويلة، من بينها حتمية ظهور تنظيمات من رحم «ثورة تشرين»، وتحالفات تزداد فاعليتها بقدر امتدادها في النسيج اللبناني، وبلورة برنامج سياسي تغييري يتجاوز المحركات المطلبية، على أهميتها!