كلما التقيت شباناً من صور أو عرسال، من كامد اللوز أو زغرتا أو سواها… يجعلك الحوار تحس بالدهشة، لأنه مع التنوع هناك غنى في المعرفة، بلور وضوحاً ما كان له هذا الأثر وهذا السطوع قبل «17 تشرين». وأثبت أن ما يجمع الأصوات المختلفة، هو رفض حلول الترقيع والقبول بالمؤقت، والإصرار على الذهاب بعيداً لإدخال تغيير جذري على الحياة السياسية. وحده التغيير الحقيقي الذي يستعيد الجمهورية وقيمها في العدالة والحرية، يجدد ويعيد إطلاق لبنان لاستعادة الكثير مما فقده، إذ لم يعد مكاناً مرغوباً للعيش، نتيجة تحكم طبقة سياسية مرتهنة متهمة بكل الارتكابات، نجحت في استنساخ سيطرتها طيلة العقود الثلاثة الماضية، مستندة إلى توافق مذهبي أضعف الدولة وعمّق من سطوة النظام الطائفي.
اليوم بعد قرار فتح البلد والجائحة طليقة بين الناس، هناك متغيرات يمكن في أي لحظة تلمُّس أثرها ووقْعها. في الأيام الأولى للثورة فجّر عنت المتسلطين الغضب المكبوت فنزل الناس وامتلأت الساحات بالأسر التي زحفت والتقى الجار مع جاره. ارتبكت السلطة من هول المفاجأة، اهتزت التحالفات وسقطت حكومة «الوحدة الوطنية»، فتقدم «حزب الله» الصفوف مدافعاً عن نظام المحاصصة وأخطائه، وتموضع مدافعاً عن تركيبة «تبيض ذهباً» في سلته وسلال الآخرين!!
واليوم يستمر الغضب ويتسع بوجه الحكومة – الواجهة ومحركيها من الخلف، التي لا تعرف إلاّ المماطلة نهجاً، وازدراء حقوق اللبنانيين مسيرة، وأولويتها تلبية متطلبات أجندة رعاتها في المحاصصة والمغانم، وتجنب اتخاذ أي خطوة جدية تفتح الباب أمام إمكانية محاسبة الفاسدين الذين نهبوا البلد وجوعوه، وتسلحوا بالجائحة لتكبيل البلد بالقرارات – القيود على الحقوق والحريات، وتطويع القوانين تأميناً لحماية مستقبلية للفاسدين، واستغلال النفوذ في تقاسم الصفقات والتهرب من المسؤولية بحيث لم يتورعوا عن إقامة جدران فصل وأسوار بين مراكز السلطة والناس ولو تسببت في تشويه وعسكرة وسط العاصمة. هنا النقد مفيد وضروري، فالغضب الكامن يشمل أيضاً مَن تلكّأ عن اتخاذ الخطوات، التي كان من شأنها المساهمة في صهر الغالبية الشعبية كتلة متراصّة بوجه نظام المنهبة، لأنها وحدها سلاح المواطنين الذين أيقظتهم «ثورة تشرين»، ولن يتراجعوا قبل ردع المنتفعين الملتحقين بالخارج. علينا أن نعترف بأنه ليست وحدها حكومة الأقنعة من أضاع الكثير على البلد، فأهل الثورة الصادقون أخذوا إجازة لم تكن كلها بسبب الجائحة، فيما كثُرت مشاريع المتسلقين وبعضهم تكوكب مستشاري سوء في مكاتب مستشارين تم توزيرهم!
عشية عودة النبض إلى ساحة الشهداء وكل ساحات الكرامة، اتسعت القناعة بأن مرحلة التحرك العفوي قد انتهت، وما من أولوية تفوق أهمية أولوية بناء ميزان القوى في مواجهة طويلة وصعبة، يعرف المواطن أن من يحتجز حقوقه إنما هي القوى الطائفية المتسلطة، التي تمتلك إمكانات الدولة وأجهزتها والإعلام والمال وفائض قوة الدويلة، ومن المستحيل أن تتخلى بسهولة عن مكاسبها. رصيد الساحات ثراء كبير جاءت به «ثورة تشرين»، هو فيض من قيم النزاهة والمواطنة والهواء النقي الذي اجتاح البيوت، لو أُحسن استخدامه فإنه بالتأكيد سيكنس التلوث الذي تركته مافيا، من القوى الحزبية والطائفية، ما كانت لتكون في مواقعها لولا ارتهانها لخارج محتل.
كل ما تقوم به السلطة مجرّب معروف ومستهلك. خطاب ممجوج يراد منه ذر الرماد في العيون عبر اللجوء إلى انتقائية مريضة لتغطية «السموات بالقبوات»، مثل «هندسات الشراء» التي يجريها مصرف لبنان وبات للدولار 4 أسعار صرف (…) وإطلاق نهجٍ بوليسي يعتقد بعضهم أن العودة بالبلد إلى ما قبل إنجاز الاستقلال الثاني في عام 2005 أمر سهل بسيط ومتيسر. فيما تدرك «ثورة تشرين» التي لم تتوقف لحظة عن التمسك بسلميتها أن التراجع استسلام والمهادنة انتحار، وأن خروج البلد من عنق الزجاجة مسؤولية أهله وثورتهم، وهم صاغوا مطالبهم التي تمر بإسقاط الحكومة لفتح الطريق أمام حكومة مستقلة عن كل من شارك في التحالف السلطوي الطائفي. حكومة من هذا النوع ستعيد الثقة لتقود مسيرة وقف الانهيار ورسم أطر النهوض. لبنان اليوم ليس بحاجة إلى «عبقرية» الدعوة لاستدانة مليارات جديدة، بل إلى حكومة مستقلة تتخذ القرار الحاسم باستعادة مال اللبنانيين المنهوب، واستعادة كل واردات الدولة التي يستمر تحاصصها اليوم تهريباً وسرقة مكشوفة، والبلد في الحضيض مالياً واقتصادياً واجتماعياً.
بناء ميزان القوى هو حَجَر الرَّحَى، قاعدته ابتداع وضع تنظيمي ميداني عابر للمناطق والشرائح المختلفة، يجمع القوى ويوحّد الجهود ويطلق تحالفاً سياسياً جبهوياً يحمل عناوين برنامج التغيير الذي بلورته الثورة. مثل هذا المنحى لم يعد بعيد المنال، لأنه بفضل «17 تشرين» استُعيدت الأعداد الكبيرة من اللبنانيين إلى الشأن السياسي، وظهرت حقيقة أن الجيل الفتيّ راكم وعياً مدهشاً، وغالبية الذين خرجوا من الحجْر وجدوا البطالة تحاصرهم ويقتلهم القهر على سلب جنى أعمارهم، وهم يرون أن هذه الحكومة – العقاب، تعيش في موتٍ مؤجل، لم يرفّ لها جفن عندما تسبب عجزها وتبعيتها في تسريع واتساع المجاعة وما تهدِّد به من حالة موت جماعي للناس! تغيّرت الأولويات، ولم تعد الأمور المتعلقة بالفساد والنهب وكل مثالب نظام المحاصصة الطائفي في الموقع الخلفي، والأمور على محك التجربة لتبيان نتائج مساعي الدويلة وحزبها لشد أزر الأتباع وزجهم في نهج محاصرة الثورة… لكن مرة أخرى ليس منطقياً الجزم بنجاعة الأساليب الماضية في تزخيم وتلميع القوى الطائفية، استناداً إلى كرتونة إعاشة وأخرى من المطهرات، لإخفاء الجريمة المتمادية بحق الناس!
كلما تقدم بناء ميزان القوى تتسارع خطوات عودة الوضوح مع تطور التكاتف الشعبي كي تستعيد الساحات هديرها وهتافها المحبب: هيلا هيلا هو… ليصبح ضرباً من المحال بقاء «قيادات» استنسخت خارج القدرة عن التعبير عن هموم أغلبية المواطنين وتطلعاتهم، حتى إنهم في نهج استباحتهم للبلد لم يتركوا «خط رجعة»، مرتاحين في كراسي الحكم، وهم في الحقيقة ليسوا أكثر من أدوات إقليمية، يتصارعون على حصص، هي في جوهرها حصص الطامحين المتدخلين في القرار اللبناني!