لا نعرف ما الاسم الّذي يصحّ أن نطلقه على الحراك الليلي الغاضب والضئيل الذي شهدته بعض الساحات إثر ملامسة الدولار الأميركي سقف الخمسة آلاف ليرة، الـ 6 دولار الشهية طيّرت صواب اللبنانيين، إنما الخمسة آلاف ليرة بالكاد دفعت الناشطين أنفسهم بقصد بضعة ساحات ومخاطبة الجالسين في بيوتهم مطالبينهم بالنّزول إلى الطرقات غضباً واحتجاجاً على الارتفاع الجنوني للدولار، ومع هذا «لم ينهزّ أحد» ولم يرفّ جفن لأي لبناني جالس في منزله فيما راتبه يتهاوى من ألف دولار إلى مئتيْ دولار، وكأنّ الأمر لا يعنيه أبداً!!
بالتأكيد هكذا مواطن تتناسب معه هكذا دولة بكلّ مواصفات فسادها التاريخي، وسيبقى الإعلان عن دعوات إلى مسيرة من هنا وتظاهرة من هناك «حركة بلا بركة» بل حراك في الفراغ الذي لن يوصل لبنان وشعبه إلى أي مكان، وسنظل حبيسي زوايا لعبة طاولة الزّهر التي يظنّ اللبنانيّون أنّ ما يتابعونه لعبة نرد ولا بدّ أن يحالفهم الحظ في «زتّة زهر» تغيّر حالهم وحال البلاد! الثّورة ليست «دليفري» خدمة منزليّة إلى البيوت وإن اجتمع هؤلاء الثوار فسيكتشفون كما في يوم السبت 6 حزيران المشؤوم أنّ الدولة نصبت لهم فخّاً ووضعتهم في مواجهة فتنة متى فُتح بابها لن يقفل!!
قد يلامس الدولار الأسبوع المقبل ستة آلاف ليرة، والبعض يخوّف اللبنانيين رافعاً سقفه إلى العشرين ألف ليرة، وللمرّة المئة نقول هذا البلد يحتاج إلى ثورة حقيقيّة، تخلع كلّ الملتصقين بكراسيهم وتعزلهم نهائياً باسم الشعب من مناصبهم وتبقيهم في منازلهم قيد الإقامة الجبريّة حتى ينظر القضاء في أمرهم، وكلّ هذا بعيداً عن الطوائف ومكاسبها وفي إطار خطوة إنتقالية إلى مشروع الدّولة المدنيّة.
لا تزال أمام اللبنانيّين فرصة أخيرة للغضب لحقّهم وكرامتهم رافضين الذلّ الذي يُسقى لهم ولأولادهم أقداحاً أقداحاً، لم يعد أمام المواطن اللبناني ترف استنزاف الوقت لحشد ثورة وشوارع وإحراق الإطارات وقطع الطرقات فالأمرُ أعجل من ذلك بكثير، ولم يعد مقبولاً تضييع الوقت على هذه الشاكلة، مسار الانهيار بات خطيراً جداً ومن المؤسف أنّ ما يسمّى دولة كانت بالأمس في اجتماع استثنائي يوم الأربعاء على غير عادتها في أفصح محاضرة في عفّة تقاسمها الحصص ووضع المواطن وما تبقّى من كرامته على «قفا» حذائها!
تفتقد الحالة اللبنانيّة إلى فكر بنّاء، ليس لأنّ لبنان لا يمتلك هذه العقول المفكّرة بل لأنّ هذه العقول نفسها زاهدة في البلد وناسه، ومدركة أنّ هذا الشعب «ما بيحمل غلوة» انقسام وهيجان مذهبي وطائفي وأنّه لا يحتاج إلا لبضعة هتافات حتى تندلع بعدها مشاريع حروب أهلية، لم يرقَ الواقع اللبناني بعد أن يتحوّل إلى ثورة حقيقيّة إسمحوا لنا، الثورة اللبنانية لا تزال تدور في الفراغ، لا مشروع واضحاً تملكه لبناء دولة واضحة المعالم تقوم على أنقاض هذه الدولة الفاسدة من ساسها إلى رأسها، هي مجرّد ردود فعل سرعان ما تنطفىء، حتى أنّها لم تبلغ أن تكون «فشّة خلق» في مواجهة كلّ ما يحدث لنا، وهي حتى الساعة لا تملك إلا عنواناً متصدّعاً لم يتجاوز حتى شعار غير متّفق على كلّيته «كلّن يعني كلّن» مع محاولة كلّ فريق فرض استثناءاته، حالة هي أيضاً مثل الدولة تراخت وتراجعت عن عملية فضح هؤلاء «كلّن» ولم تسعَ حتى لتمتلك أدوات تخاطب بها العالم ليدعمها في هذه الخطوة!