هذه الإنتفاضة التي هبت رياحها الحارة في أواخر السنة الماضية، شاءت أن تجدد شبابها وأهبتها للعمل التغييري والإصلاحي، فأوقعت نفسها وأوقعها نظام المنتفعين والمصادرين لإرادة شعب بات كل ما فيه يؤكد على عمق الإنهيار الإجتماعي والإقتصادي والمعيشي الذي أصبحنا نعاني من ممارسة الحياة اليومية القاسية والمؤلمة في طياته بعد أن باتت تطاولها المعاناة وتحديات البطالة والآفاق المسدودة والإقتراب أكثر فأكثر إلى مهاوي الفقر المدقع والمجاعة القاسية.
هذه الإنتفاضة، وقد دعت إلى متابعة مسيرتها انطلاقا من يوم السبت 6/6/2020 وتطويرها ودمجها في إطارات جديدة ومطالب سياسية عميقة المدى وجذرية التطلعات الإصلاحية، لم تأخذ بعين الإعتبار، مدى صلابة الألغام والمطبات التي أوقعت نفسها فيها وأوقعها في غمارها آخرون تسلحوا بكل الأساليب المحظورة والممنوعة وطنيا ودينيا وطائفيا ومذهبيا بكل حساسياتها وآثارها المدمرة على المجتمع اللبناني بأسره، فما شهدناه يوم السبت المنصرم، تجاوز كل الحدود والسدود والموانع، قذف إلى الوجود الملتهب، كل تلك الترهات والتفاهات والشتائم المزرية والمصادمة لمحظورات يفرضها الدين والأدب والإحترام لمقدسات دينية تطاول قدسيتها وسلامة النظرة والتصرف إليها، جميع المسلمين بكل مذاهبهم وكل ثغرات خلافاتهم المختلقة، وكان مضمونها والمقصود بها أن تشكل كل هذه المطبات التي وجدنا لبنان غارقا في إطارها المتمذهب بأسخف وأقذر أنواع التمذهب المصطنع والمبرمج للغايات المشبوهة، وبالإضافة إلى مساوىء الشعارات والأختلاقات التي طرحت يوم السبت الفائت، أضيف إليها عمليات غزو خطير الوقع طاولت بعض الأحياء والمناطق الحساسة التي سبق أن كان بعضها مكمنا تفجّرت به ومنه، تلك الحرب الأهلية اللعينة، فإذا بنا نستعيد من خلالها ذكريات سيئة الوقع، حساسة الذكر والمعنى كما هو الشأن في أحداث الشياح وعين الرمانة، القديم منها والجديد ولئن كنا نزهو بأننا قد دفعنا مع ماضي الأيام والذكريات الإحترابية السيئة، تلك الوقوعات والمواقع، فإننا مع الأسف الشديد استعدناها إلينا مشفوعة بجملة من الإختلافات العنفّية في الطريق الجديدة وكورنيش المزرعة والرينغ وخندق الغميق… وكلها نقلت إلينا مواجع حرب مدمرة، وفلتانا طائفيا ومذهبيا عانى منه المواطن بأقسى المثالب والمواجع، وكنا نظن أننا تلقينا بصدده ما يكفي من الدروس والعبر التي من شأنها أن تضعنا جميعا على برّ معقول ومقبول من الأمان والإستقرار.
يوم السبت الفائت، إهتزت الأرض بنا جميعا واهتزت معها كل أسسنا مقاييسنا، وكانما لم نعبأ بما نزل علينا من مصائب الدهر ومظالم السياسيين والمنتفعين والناهبين لجنى اللبنانيين وما تبقى من أرزاقهم، وانهمرت التصريحات المحذّرة والمستنكرة والداعية بما يدفعنا إلى توجيه الشكر والإمتنان إلى من أطلق في تلك الأجواء الملتهبة التي سادت يوم السبت الفائت. وفي طليعتها شكر خاص إلى الرئيس بري ووليد جنبلاط وسعد الحريري الذين لمّتهم المأساة إلى لقاءات طارئة ومستعجلة وعاونهم في ذلك عدد من رجال الدين المسلمين والجمعيات والهيئات الإسلامية التي أدركت مدى السخف والتقهقر الديني والخلقي لدى جمع من الجهلة الذين وصل بهم الخرق الفكري إلى مهاوي كادت أن تتساوى مع ملامسات الكفر. وكان اللقاء الذي تم في دار الفتوى بحضور سماحة المفتي دريان ودولة الرئيس الحريري وأعضاء المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وكان البيان الذي صدر عن هذا اللقاء، يمثل قمة في الوعي والإدراك المتحفز للملمة المخاطر التي أدركها الجميع كل من موقعه ومن منطلقاته. الدعوى لهذا الإجتماع وجهت أيضا إلى رئيس الحكومة الحالي حسّان دياب، فلم نجده بين الحضور، كما لم نجده في وسط الأحداث التي انطلقت يوم السبت الفائت وقبلها وبعدها ولم نسمع له إلا تصريحا واحدا باهت المضامين، وغاب رئيس الوزراء المسلم السني عن مجمل أحداث شديدة الوقع والصدى، فغاب معها موقف مفترض لممثل الجهة الميثاقية التي طاولتها افتعالات التعدي، ورمايات الإفتراء والتآمر، الأمر الذي يستنتج منه ذلك الغياب والضعف في الجهود والخبرة الذي تشكو منه حكومة طلعت علينا في أجواء شديدة العتمة والصخب والجنون، فكانت نتائجها، في العموم، محصورة ببعض النويا الحسنة لدى بعض أعضائها، ولدى كثير من الأعضاء الذين لم نلق منهم منفردين ومجتمعين، إلاّ هذه النتائج السيئة التي تعبق بها أجواء هذه الأيام القاتمة.
وبعد: تصادف هذه العواصف المزمهرّة، ونحن في صلب أوضاع إقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة، وفي غمرة عقوبات دولية وإقليمية تعبر إلينا قيصرياً من زمهرير الوضع السوري الملتهب والذي نتوقع أن تلحقنا من زمهريره جملة من النتائج والأقدار شديدة اللهب والإيذاء والألم.
نصيبنا أننا أبناء هذه المرحلة القائمة والمهتزة بشتى أنواع المزالق والمطبات، ويبقى علينا واجب النضال المستميت لإنقاذ بلدنا وأنفسنا ومصير أبنائنا من مصائب عظمى تتلبد غيومها وعواصفها المنتظرة في أجوائنا التي فقدت كل خصائص صفاتها ونقائها وتميزها.
أما « كورونا «، فهي في كل الأحوال ما تزال لدينا «ضيفا» ثقيلا يأبى أن يغادرنا بالتي هي أحسن.