شكلت أحداث الأيام الماضية على صعيد الاحتجاجات الشعبية دلالة الى المسار الذي ستسلكه الأمور في الفترة المقبلة، لناحية توجه الحراك الشعبي والمطلبي نحو التوأمة بين المسلك على الأرض والتركيز على حراك سياسي مواز اتفقت عليه مجموعات كبيرة لإسقاط الحكومة.
لا يعني هذا الأمر شموله كل القوى في الساحات، كون الانتفاضة الشعبية تضم فئات مختلفة من المجتمع اللبناني وبعضها نقيض الآخر، لكنه توجه يحصل على اتفاق فئات لا يستهان بها على الأرض تضم شرائح سبق نزولها الى الشارع تاريخ 17 تشرين بسنوات.
منذ ما قبل «السبت الأسود» وشعاراته في السادس من حزيران، نأى مؤسسو الحراك بالنفس عن أي ما قد يؤذي «الثورة» التي تترصدها السلطة ولاعبون خارجها. لذا، لم ينزل المؤسسون ذلك النهار وفي أيام تلته الى الشارع الذي شهد فضائح عنفية وتخريبية وأخلاقية وشعارات طائفية ومذهبية.
13 حزيران
ولعل التمايز الأكبر لهؤلاء المؤسسين يعود الى تاريخ 13 حزيران، من دون إغفال مجموعات استمرت في النزول مثل يوم الأحد الماضي، لكن هذا التمايز يدلل عليه الحراك بسبب ما شاب الانتفاضة من تشوهات وترصد يبدو أنه وجه إليها ضربة كبيرة.
من الواضح أن المشروع التغييري الذي جمع مئات الآلاف في الأيام الاولى والذهبية للانتفاضة، بات مغايرا اليوم. العنف، التخريب، الطائفية، التعب والخوف كلها عوامل دفعت بكثيرين الى الانفضاض عن المشهد ليستقر على عشرات المحتجين. لم يحط ذلك من عزيمة كثيرين، وهم سيستمرون في مسيراتهم وتجمعاتهم، خاصة بعد سقوط وهم «حكومة الثورة» التي بات سفور تسييسها وتحاصصها نافراً.
يحاول المنتفضون اليوم توحيد الرؤية قدر الامكان، وهو أمر دونه صعوبات لكي يجمع كل الشرائح. وسيتجمع هؤلاء وراء مطالب محددة تبني على إنجازات فعلية وتتخذ عناوين متعددة جديدها أنه لا إمكانية لاجتراح حلول اقتصادية واجتماعية من دون مواءمتها مع حلول «سياسية» ينضوي في إطارها تشكيل دولة مدنية غير طائفية بديلة. وسيكون الجديد أيضاً في المشروع المأمول نحو إئتلاف واسع يحضر لإعلان مبادئ، إدخال «القضية الوطنية» ركناً في الشعارات والجهر بـ«العداء لإسرائيل»..
على أن الخطوة الاولى تتطلب أولاً حكومة مستقلة ومؤقتة ذات صلاحيات إستثنائية تمهد لقانون انتخاب خارج القيد الطائفي، يوازيه العمل على سلطة قضائية تعمل على إرجاع المال المنهوب ومحاكمة الفاسدين بدلاً من التعويل على «صندوق النقد الدولي» الذي لا طائل منه بل سيؤسس الى المزيد من الإفقار على المدى الطويل.
تفخيخ التحركات
لكن الشغب الذي شاب التحركات في الأيام الماضية يبدو تحدياً كبيراً بالنسبة الى الانتفاضة التي ترفضه وتتبرأ منه طارحة تساؤلات من نوع: هل العنف يعد بداية أم نتيجة للكارثة التي أوصلتنا إليها المنظومة الحاكمة من نهب المال العام؟ هل هو نفسه الذي يستنكر هذا العنف والشغب؟ ثم ما السبب الحقيقي وراء الارتفاع المخيف في سعر الدولار الذي كان وراء كل ما حصل؟
هي سلسلة من الأحداث والتراكمات التاريخية أدت الى كل ذلك حسب هؤلاء، إستثمرته المنظومة الحاكمة لتفخيخ الانتفاضة لتنحو الأمور نحو أحداث متنقلة بين الشوارع الآمنة مثل ما حصل بين الشياح وعين الرمانة، لكي يسري الذعر في البلاد وتنكفئ الناس عن الاحتجاج السلمي وبالتالي فشل الانتفاضة.
ولأسف الحراك أن هذا ما حصل فعلاً، ما يدفعه الى التمسك بتاريخ 13 حزيران كمناسبة جامعة وناصعة تعبر عن الانتفاضة كما بدأت وقوام المشهد أحزاب كـ«الشيوعي» (عماد التحرك في الجنوب) ومجموعات يسارية كثيرة ومتعددة تنشط خاصة ضد المصارف، وحركة «مواطنون ومواطنات» وحركة «الشعب» وغيرهم كثر.. سيبقون في الساحات في رحلتهم ذات الألف ميل لمحاولة تغيير موازين القوى وتبديل منظومة السلطة عبر مروحة واسعة من التحالفات.
الحكومة لشراء الوقت
وفي موازاة ذلك، يبدو واضحا، حتى لو كابر الحراك، أن الحكومة قد رسّخت قدميها الى حد ما في البلاد، استباقا لانهيار كبير وفوضى عارمة تجتمع ظروفهما.
وإزاء الضغط على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لضخ الدولار في السوق، والذي يعتبره أخصام الحكومة من مجموعات حراكية وأخصام سياسيين، مؤقت المفاعيل، يبدو دياب واثقاً، وخاصة بعد مشاورات أخيرة مع مؤسسي المعادلة الحكومية، من الاستمرار.
وقد برهنت الأيام القليلة الماضية عن هذا الأمر بعد تمرير تحاصص التعيينات المالية الحساسة بين متخاصمين داخل الحكومة، كما على إثر الاتفاق على كيفية التعاطي مع حاكم مصر لبنان وحماية الليرة.
يضاف الى هذين العاملين وغيرهما وقبلهما، أنهما يأتيان في ظل معادلة إقليمية ودولية جاءت بالحكومة وما تزال تحميها، وخاصة لناحية الاستمرار الاميركي في دعمها حسب مصدر مقرب من الادارة الاميركية.
وإزاء ذلك، تطالب الانتفاضة بإجراءات سريعة وفعالة، وهي تقف مترقبة لمآل الأداء الحكومي وخاصة مالياً لناحية الدولار كونه يشكل العامل التفجيري للمعادلة الحكومية التي تراهن على شراء الوقت.. حتى انبلاج فجر المحادثات المهتزة أصلاً بين لبنان و«صندوق النقد الدولي»!