ثورة الغضب التي ألهبت الساحات، وزلزلت الزعامات، وقلبت الطاولة على رؤوس القيادات، جسدت حالة السخط والقهر التي فتكت بطموح الشباب، وتركتهم فريسة الإحباط والضياع في دولة تحوّل فيها الفساد إلى ممارسة يومية غرقت فيها الطبقة الحاكمة إلى ما فوق أذنيها!
لقد صبر اللبنانيون طويلاً على الوعود الخادعة، التي تحولت إلى مجرد خطابات لا تساوي قيمة الحبر الذي كُتبت به، وتحملوا كثيراً تداعيات سياسات المناكفات والصراعات بين أهل الحكم في سباقهم المستميت على إقتسام جبنة السلطة، وتوزيع مغانم الصفقات والسمسرات، والسباق على تراكم الثروات على حساب لقمة عيش الفقراء والأكثرية الساحقة من اللبنانيين، غير آبهين بوصول معدلات البطالة إلى أرقام قياسية لم يعرفها لبنان، حتى في أسوأ سنوات الحرب البغيضة.
وعندما واجهت سفينة السلطة رياح العجز والإفلاس، سارع أهل الحكم إلى تحميل الطبقات الشعبية أعباء إنقاذ مالية الدولة من الإنهيار، عبر سلسلة تدابير أقل ما يُقال فيها أنها جائرة وظالمة بحق أصحاب الدخل المحدود، والغالبية العظمى من الموظفين، وذلك على سبيل المثال لا الحصر:
– تخفيض رواتب الموظفين بنسب وصل بعضها إلى ثلاثين بالمئة.
– تنفيذ حسومات من رواتب العسكريين والموظفين المتقاعدين ومن التقديمات الصحية والإجتماعية التي دفعوا بدلاتها أثناء خدمتهم في الوظيفة!
– رفع الدعم عن القروض السكنية التي كان يستفيد منها الشباب لتأسيس عائلاتهم الجديدة.
– فرض حزمة من الضرائب بشكل عشوائي، تطال الشرائح الأقل دخلاً في المجتمع، مثل رفع ضريبة القيمة المضافة، وزيادة الرسوم على مجموعة من المعاملات، فضلاً عن ضريبة ثلاثة في المئة على المستوردات.
وغير هذه الأمثلة كثير، في وقت بقيت الشركات الكبيرة بمنأى عن أية ضريبة جديدة، وحافظت مخصصات الرئاسات على ملياراتها، ولم تطال إجراءات التخفيض والحسومات رواتب الوزراء والنواب الحاليين والسابقين. وإستمرت في الوقت نفسه أحاديث الصفقات والسمسرات، ومزاريب الهدر التي لم تتوقف، وكلها تصب في حسابات أهل الحكم!
وذهب بعض أطراف السلطة، في مناوراته السياسية إلى حد التهديد العلني بقلب الطاولة على الحكومة في حال لم يأخذ مجلس الوزراء ببنود ورقته الإقتصادية، والتي جاءت، مثل غيرها من الإقتراحات المطروحة، لا تلبي الحد الأدنى من متطلبات الإصلاح المالي والإداري.
وما أن أطل الطرف المعني برأسه إلى الشارع للضغط على الحكومة، حتى فقد السيطرة على الحركة الشعبية التي أخذت المبادرة وقلبت السحر على الساحر، وأشعلت نيران الغضب في صفوف الشباب المحبطين الذين سرعان ما نزلوا إلى الساحات ليعبروا عن رفضهم لهذه الطبقة الفاسدة، ويعلنوا تحررهم من نير الزعامات التقليدية التي تاجرت بآمالهم وآلامهم، وأجهضت طموحاتهم ببناء غد أفضل.
الواقع أن عجز الطبقة الحاكمة وضياعها في اللهث وراء مغانم النفوذ والسلطة، وضع لبنان أمام مفترق خطر: إما أن يتجاوب أهل القرار مع مطالب الشباب الثائر، ويتم إتخاذ إجراءات إصلاحية فورية تبدأ بإلغاء العديد من مخصصات وإمتيازات أهل الحكم، وتصل إلى محاسبة رموز الفساد والنهب لمالية الدولة. وإما أن يركب بعض أطراف السلطة رأسه ويواجه تجمعات الشباب في الساحات بالقوة، وعندها تقع الواقعة، وما أدراك ما الواقعة، عندما ينزلق خيار أهل السلطة إلى إستخدام العنف، بدل الحوار وإستيعاب غضب الشباب المبرر نتيجة الواقع المعيشي المزري الذي يعانون منه، فيما يرتع الحكام بترف الثروات الحرام المنهوبة من خزينة الدولة، وعلى حساب حقوق الناس.
إنها فرصة للتغيير.. لا للترقيع، كما جرت العادة في بلد يحاول حكامه معالجة سرطان الفساد والنهب بمسكنات يقتصر مفعولها على صغار القوم من الموظفين والوسطاء في دواوين الدولة، فيما يبقى حيتان الصفقات والسمسرات على كراسيهم معززين بالحمايات السياسية من كل حدب ولون!
والتغيير هنا لا يعني الذهاب إلى إستبدال هذا النظام العليل بشحطة قلم، بقدر ما هو مطلوب في هذه المرحلة بالذات، تغيير ذهنية الحكام المبنية على تسخير الدولة ومواردها لجيوب الفاسدين، وحماية الأزلام والمحاسيب في إستنزاف المالية العامة دون حسيب أو رقيب.
أيهما يسبق الآخر: إطلاق ورشة الإصلاح الجدّي والحقيقي، وإستيعاب غضب الشباب، وإقناعهم بمغادرة الساحات على إيقاع الإجراءات الفورية للإصلاحات الجذرية، أم أن خيار المواجهة والتهديد بالقمع وإستخدام العنف سيكون أسهل على السلطة التي ستؤكد عندها، مرة أخرى، عجزها عن تحقيق أية خطوة إصلاحية حقيقية!
… وغني عن القول أن مثل هذا الخيار سيُدخل البلاد والعباد في نفق مظلم، قد نعرف بدايته، ولكن لا أحد يستطيع أن يتكهن بنهايته!