في وطن الإستحقاقات المؤجّلة، تُطلّ إنتخابات الرهبنة اللبنانية المارونية بعد أشهر لتعطي مؤشّراً إلى ما سيكون عليه الوضع داخل الإكليروس الماروني، وتوجّه الكنيسة الجديد ودور الرهبنة في الحياة الوطنية، خصوصاً أنها مرتبطة مباشرةً بالفاتيكان في ظلّ الثورة التغييرية التي أطلقها البابا فرنسيس وهي تطاول الجسم الكنسي كاملاً.
قد يكون الحديث عن إستحقاق الرهبنة اللبنانية المارونية عابراً، على إعتبار أنه إستحقاق محلي يخص فئة دينية محدّدة، لكنّ لانتخابات الرهبنة طعماً آخر نظراً الى الدور التاريخي الذي لعبته في نشأة الكيان اللبناني والحفاظ على إستقلاليته وإيصالها بطاركة رهباناً كانوا القادة السياسيين والوطنيين الفعليين للدولة اللبنانية، إضافة الى دورها منذ الإستقلال وفي الحرب اللبنانية مع الرؤساء العامين وعلى رأسهم الآباء شربل قسيس وبطرس قزي وبولس نعمان الذي يجلس في الكسليك ويراقب الوضع من بعد بعدما قرّر عدم الدخول في الزواريب نتيجة الوضع المتردي الذي وصل إليه المسيحيون والموارنة.
أسئلة كثيرة وتحدّيات تنتظر رئيس الرهبنة المقبل، خصوصاً بعد إنكفاء «الجيش الأسود» منذ العام 1986 عن الحياة السياسية نتيجة قرار الفاتيكان بحصر المرجعية ببكركي، ولعلّ أبرز هذه الأسئلة: هل سيتدخل الفاتيكان ويؤثر في مجرى الإنتخابات، أم أنه سيترك اللعبة الانتخابية تأخذ مجراها؟
وهل يستطيع الرئيس الجديد أن يكون على قدر المسؤولية ويواكب المرحلة الجديدة مع ما يتعرّض له مسيحيّو الشرق من تهجير وخطر وجودي، أم أنّ الحدود والدور اللذين يرسمهما الفاتيكان للرهبنة المارونية لن يستطيع أحد تخطيهما مهما كانت شخصية الرئيس الجديد قويّة لأنّ الطاعة الكنسية في صلب عمل الرهبنة التي لا تتخطّى المرجعية الأكبر؟
وجدير بالذكر أنّ ولاية الرئيس العام للرهبنة اللبنانيّة المارونية مدتها 6 سنوات، ومنها إستوحى الموارنة مدة ولاية رئيس الجمهورية بست سنوات أيضاً.
وفي حين تنشط مؤسسات الرهبنة التعليمية، إضافة الى المؤسسات الإستشفائية والخدماتية، كان مسيحيّو الشرق ينتظرون أن يلعب «الجيش الأسود» دوراً بارزاً في المناطق المسيحية المنكوبة في الشرق وينتشر ليقدّم الخدمات والإغاثة إلى النازحين، أو أقله أن يؤمّن لهم هذه المتطلبات في لبنان الذي نزحوا إليه، لكن يبدو أنّ هذا الأمر يحتاج الى قرار كبير لم يُتخذ، أو أنّ الأحداث المفاجئة لم تترك للقيمين على الرهبنة مجالاً للتحرك حيث كانت التطوّرات أقوى من الجميع.
من المؤكد أنّ سنة 2016 ستحمل رئيساً جديداً الى الرهبنة، فيما ليس محسوماً أن يكون للجمهورية رئيس، فهل ستستطيع الرهبنة لعب دور على الصعيد الوطني والسياسي وإعادة النبض والروحية اللذين أرساهما الثلاثي قزي- قسيس- نعمان؟ أم أنها ستكتفي بنشاطها على الصعيد الاجتماعي والديني؟
في السابق جمعت الرهبنة تحت جناحها في الكسليك أقطاب «الجبهة اللبنانية» ومفكريها برئاسة الرئيس كميل شمعون، وشكّلت المظلّة التي حمت المشروع المسيحي واللبناني، وأوصلت الرئيس بشير الجميّل الى السلطة قبل أن يستشهد في 14 ايلول 1982، فهل سيُعيد التاريخ نفسه من حيث الدور والعمل، أم أنّ هذه الحقبة ولّت الى غير رجعة مثل معظم الحقبات المارونية الجميلة؟
وفي الشقّ الإصلاحي، هل ستواكب الرهبنة مشروع البابا فرنسيس الذي يسعى لردّ المسيحيّين الى جوهر دينهم والإبتعاد من القشور والمظاهر والفخفخة؟
في هذا الوقت، لا تزال المدرسة الاكليريكية في غزيز تمدّ لبنان برهبان جدد منهم مَن وصلوا أخيراً الى مجلس المطارنة الموارنة ويلعبون دوراً بارزاً في الحفاظ على الخط التاريخي للموارنة وأعطوا دماً جديداً للمجلس هو بأمسّ الحاجة اليه، فيما آخرون يلعبون دوراً متقدّماً في المكان الموجودين فيه.
وفي المحصّلة، تتمثل مشكلة القيادة المارونية في أنها تفتقد إلى القوة والتخطيط نتيجة النزاعات والحروب الداخلية، وفي عجزها عن توحيد الكلمة والقرار بما يصبّ في مصلحة المسيحيين خصوصاً ولبنان عموماً نتيجة تقديمها مصالحها الخاصة على مصلحة الوطن، من هنا فإنّ المطلوب نقد ذاتي ماروني والابتعاد من الأحلام والأنانية ومقاربة الواقع بجدّية.