وفي اليوم الثاني عشر أكدت ثورة ١٧ تشرين إستمراريتها وفعاليتها، بحيث أصبحت واقعاً راسخاً، لم يعد بإمكان أهل الحكم تقليل أهميته أو القفز فوقه.
وبالمقابل أصبحت الحكومة أشبه بجثة هامدة، بإنتظار صدور مراسم دفنها، إثر الإنتهاء من فكفكة العقد التي تعترض تشكيل «حكومة الإختصاصيين»، وفي مقدمتها عقدة إصرار الوزير جبران باسيل على الوجود في التركيبة العتيدة، خلافاً لمبدأ إستبعاد الأحزاب السياسية عن المشاركة في «حكومة الإنقاذ».
هذا الكلام لا يعني أن ثورة اللبنانيين السلمية قد إنتصرت، وحققت معظم أهدافها، لأن الطريق ما زال في بدايته، والمشوار محفوف بكثير من المخاطر والتحديات التي تتطلب حنكة في التعاطي معها، ووضوحاً في معالجة تفاصيلها، خاصة وأن الشياطيين تكمن في التفاصيل، وتكون أحيانا قادرة على إعادة الأمور إلى المربع الأول.
في مقدمة هذه التحديات، أن بعض أطراف السلطة يراهن على الوقت في تفشيل أهم ثورة، إخترقت الحواجز الطائفية، وتجاوزت الفروقات الإجتماعية، وقاربت بين المناطق اللبنانية، ووحدت كلمة اللبنانيين ضد الإقطاعيات السياسية والحزبية، التي عاشت على اسلوب «فرق تسد» بين الطوائف والمذاهب، وغذّت الحساسيات المناطقية، وأتقنت فن شد أوتار العصبية العمياء، كلما شعرت بالخطر الذي يهدد زعاماتها.
وإذا كان رهان السلطة على الوقت قد فشل حتى الآن، فإن ذلك لا يعطي فرصة مفتوحة لأهل الثورة في إعتبار الوقت يعمل لمصلحتهم دائماً، خاصة في ظل التعطيل الحاصل لمرافق البلد الحيوية، وما يعيشه اللبنانيون، وخاصة شباب وشابات الثورة وعائلاتهم من ضيقة إقتصادية ومعيشية، بسبب الأزمات المتراكمة، والتي أوصلت العباد والبلاد إلى الإفلاس.
ليس من السهل تجاهل الحالات الإجتماعية المؤثرة لجمهور كبير من مناصري الثورة، وحاجتهم للعودة إلى أعمالهم لتحصيل لقمة عيشهم اليومية، وتأمين متطلبات عائلاتهم الضرورية. كما أن إستمرار إقفال المؤسسات المتوسطة والصغيرة سيُلحق الضرر البالغ بأصحابها والعاملين فيها، لعدم قدرتها على مواجهة أعباء أيام التعطيل في حال إستمرت طويلاً، لا على مستوى تأمين الأجور للعمال والموظفين، ولا بالنسبة لتوفير السيولة اللازمة لأصحابها.
يُضاف إلى ذلك، أن إستمرار إقفال الطرقات سيعرقل إيصال مواد التموين الإستراتيجية، مثل الطحين والبنزين والأدوية والتجهيزات الصحية للمستشفيات، ويُلقي تداعياتها على عاتق الثورة وشبابها، في إطار المحاولات المستمرة لتشويه سمعة الثورة، وإيجاد هوة بينها وبين جمهورها خاصة، ومع كافة اللبنانيين عامة.
وليس خافياً حجم الضغط المتزايد من مواقع القرار في السلطة السياسية على القيادات الأمنية، لدفعها إلى إستخدام القوة في فتح الطرقات، والتشاطر من جانب أصحاب تلك المواقع لإصابة أكثر من هدف في وقت واحد: قمع الحراك وأهل الثورة بحجة العمل على فتح الطرقات من جهة، والعمل على إيجاد شرخ بين شباب الثورة والقوى الأمنية من جهة ثانية، وتوجيه ضربة قاسية لسمعة القيادات الأمنية المتهمة بطموحها السياسي المزعوم.
وغني عن القول أن الإنزلاق إلى دوامة العنف، يفتح المجال أمام أطراف أخرى للدخول على خط الإشتباك، وتصفية حساباتها مع الثورة، بعد إعتبارها حركة «ممولة من الخارج»!
وثمة تحدٍ آخر، يتمثل بمطالب الثورة التي أصبحت معروفة، ويتم تكرارها في كل مناسبة، وأهمها: إسقاط الحكومة، تشكيل حكومة «الأيدي النظيفة» من أهل الإختصاص والسمعة الحسنة، إستعادة الأموال المنهوبة وإحالة السياسيين الفاسدين إلى المحاكمة، ووضع قانون جديد لإجراء إنتخابات نيابية مبكرة.
هذه المطالب على أهميتها الوطنية، وعدالتها القانونية والإجتماعية، تحتاج إلى برنامج مدروس يُحدد الأولويات والبرنامج الزمني لها، ضمن رؤية متكاملة للخروج من النفق الحالي، وتحقيق النهوض الإقتصادي المنشود في فترة زمنية مقبولة، بعد وضع حد فاصل لإيقاف الإنحدار المستمر منذ فترة، وعجز أهل الحكم عن إيقافه قبل الوصول إلى الإنهيار الراهن.
الثورة نجحت في تحقيق العديد من الإنتصارات بسرعة خيالية، ولعل أهم إنجازاتها: جمع اللبنانيين تحت علم واحد، وتوحيد كلمتهم ضد السلطة الفاسدة، وتجاوز الخطاب الطائفي المقيت، ونبذ مشاعر الحذر والتعصب من نفوسهم، وإجبار السلطة على سماع صوت الناس، والرضوخ للمطالب العادلة والمحقة.
ولكن الحفاظ على هذه المكتسبات والإنتصارات يتطلب إستمرار هذا الإحتضان الوطني للثورة، من اللبنانيين المقيمين، والمغتربين الذين رفعوا العلم اللبناني وأوصلوا صرخات الثورة إلى أرجاء المعمورة في القارات الخمس، كما يتطلب الكثير من الديناميكية والوعي، لمواجهة ما يعترض طريق الثورة من صعوبات وتحديات تهدِّد ما حققته من إنجازات حتى الآن.