أخطاء الرئيس سعد الحريري كثيرة. أولها قبوله ترؤس الحكومة لأول مرة بعد اتفاق الدوحة، لأن حداثة عهده بالعمل السياسي، يومذاك، عرضته لاحقاً لارتكاب أخطاء أخرى، من زيارته سوريا يوم كان النظام السوري يبحث عن قارب نجاة ينقذه من لجة الإدانة باغتيال والده، إلى التسوية الرئاسية ثم الموافقة على سن قانون انتخابي أفقد الحريرية عمادها الصلب، فؤاد السنيورة، بعد غياب مؤسسها. وهي كلها أخطاء فادحة يكفي أي واحد منها للإطاحة به وبموقعه. لكنها أخطاء بحق نفسه لا بحق خصومه، الذين كانوا يشمتون في سرهم ويشجعونه على متابعة مسار سياسي مترافق مع تعثر مؤسساته المالية.
لم يجد خصومه ما يلومونه عليه. فهو كان يقدم لهم خدمات سياسية مجانية، إلى أن نهض مستدركاً، بعد أن بلغ سيل خسائره الزبى، وقدم استقالته مستعيناً بالثورة مستجيباً لمطالب الشارع، فسارعوا إلى مطالبته بالعودة، مع وعود “بلبن العصفور” و”الصبر مئة يوم” بانتظاره. إلى جانب ذلك لم يتوقفوا عن التهجم على “الثلاثين عاماً” من حكم الحريرية، مع أنهم حكموا نصف هذه الفترة بغيابه. خطة التمسك بالحريري الإبن والتهجم على الحريري الأب لا تخلو من الغباء، ومن الطبيعي أن يعتمدها أنصار الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر في دفاعهم عن سلطة أمسكوا زمامها بكل أساليب الاغتصاب والبلطجة، وراحوا، في النصف الثاني من “الثلاثين عاماً” يدمرون ما تم إنجازه في النصف الأول. ففي النصف الأول تعممت الكهرباء عشرين ساعة من أربع وعشرين، فيما عمّموا الظلام وتقاسموا الصفقات. قدم الحريري الأب منحاً تعليمية لثلاثين ألف شاب، وفي عهده شيدت مباني المؤسسات والجامعة اللبنانية والمدينة الرياضية وشقت الطرقات ومدت شبكات الهاتف، فيما كانوا هم يبحثون عن حصص لهم في الصفقات، ويتقاسمون مؤسسات الدولة وثروتها ويوزعونها على أزلام ومحاسيب بعيداً عن معايير الكفاءة، فأجهزوا على الجامعة اللبنانية ودمروا التعليم الرسمي، والقائمة لا تنتهي.
لا شك في أن السياسية المالية المبنية على مبادئ المدرسة الليبرالية والاقتصاد الحر، التي اعتمدها الحريري الأب للنهوض بالاقتصاد وإعادة البناء، تواجهت بنوعين من الاعتراض، الأول عبّر عنه يساريون أو متحدرون من أصول ماركسية، من غير أن يقدموا بديلاً مقنعاً، إذ كانوا، لسوء حظهم يواجهون الحريرية بأفكار ومقترحات من أيام الاشتراكية ومنظومتها المنهارة. أما الثاني فمصدره شركاؤه في السلطة الذين كانوا يمارسون عليه كل أنواع الضغوط، منها الميليشيوية ومنها الاستعانة بأجهزة المخابرات السورية، للحصول على حصص أكبر في مشاريع إعادة الإعمار، فكان يشتري اعتراضهم برشاوى على شكل هبات من المال العام ومن ماله الشخصي أحياناً، أو وظائف في إدارات الدولة، ما جعل الدولة تفقد شيئاً فشيئاً، برعاية نظام الوصاية، كل مقوماتها كدولة برلمانية، ويصير فيها نظام الحكم استبدادياً كما في كل العالم العربي، يتم فيه اختيار الحاكم بالوراثة أو بما يشبه التعيين، ويلغى منه تداول السلطة والكفاءة وتكافؤ الفرص وتنهار كل القيم الديموقراطية.
بالتأكيد، لم تنفجر ثورة الشعب اللبناني ضد السياسة المالية لرفيق الحريري، فمسؤوليته عن الدين العام، في النصف الأول من “الثلاثين عاماً” لم تتجاوز الثلاثين مليار دولار، فمن يتحمل مسؤولية وصوله العام 2019 إلى حدود التسعين؟ بل هي انفجرت عندما بلغ الفساد المستشري ذروته، مجسداً بجريمتين ترتكبهما السلطة السياسية: نهب المال العام، وهو ما رمى البلاد في أتون أزمة اقتصادية ومالية ونقدية طالت حقوق المواطنين بعيشهم الكريم، وانتهاك الدستور وهو ما يهدد بتدمير الدولة والقضاء على سيادة الوطن. وقدمت الثورة برنامجاً واضحاً، استبعدت منه استخدام العنف والأساليب الانقلابية، بهدف إعادة تشكيل السلطة السياسية من ضمن الأسس الدستورية.
المتهمون بالفساد وتدمير الدولة هم نظام الوصاية وأعوانه أيام الحريري الأب، والميليشيات العسكرية والسياسية أيام الحريري الإبن. لذلك نراهم يرمون التهمة بعيداً عنهم، على الماضي المالي ليبرئوا أنفسهم من حاضر يمسكون بزمامه السياسي، ويمعنون في التصويب على الفساد المالي لا على الفساد السياسي، وعلى الجانب المصرفي والنقدي من الأزمة، ليتبرأوا من مسؤوليتهم السياسية عن دفع البلاد إلى الانهيار. هذا الشكل من التذاكي يصح في الشعر، إذ يقول عمر بن أبي ربيعة: إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا… لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر.
أما في الثورة حيث الجوع يعض الشعب بنابه، فليس ينفع الخداع. ولا مفر من المحاسبة.
أيها الثوار، حاذروا حبائل أهل السلطة السياسية ومكائدها، ولا تضيعوا البوصلة. السلطة السياسية أصل كل فساد ولن تتوقف عن التهرب من المحاسبة. لا إصلاح في القطاع المصرفي والمالي والاقتصادي من دون إصلاح سياسي قوامه إعادة تشكيل السلطة واستبعاد الفاسدين بعد محاسبتهم.