تميل الثورات ووعودها الكبرى لأن تنشدّ إلى الأعلى وتشدّ إليه. فانتصار «الشعب» هو، في وقت واحد، انتصار للأقلّيّات، وللمستعمَرات إذا وُجدت، وهو أيضاً انتصار للنساء، وللعبيد إذا وُجدوا. ولأنّ الثورة تحرّر شامل ومطلق، بحسب كلّ ميل إيديولوجيّ إلى تعميم ذاته، يسطع معها المثال الكبير المنسجم في ما ينكمش الواقع بما يحتويه من تناقضات تأبى أن تتوحّد في المرتبة، وتالياً في الحلّ.
صحيحٌ أنّ الثورة الفرنسيّة أنجزت بعضاً ممّا وعدت به، لكنّ ذلك لم يحل دون اصطباغ فكرة التحرّر الشامل بالطوبى، أو بالخرافة. فالبشر ليسوا مصانع للزهد والتفاني، وإذا كان الظلم لا يوحّد الظالمين، فهو أيضاً لا يوحّد المظلومين، إلاّ في الإنشاء، بل ربّما قُيّض لظلم بعينه أن يكون مصدراً لظلم آخر.
وتقول التجارب إنّ المستعمرات البعيدة من المركز المتروبوليّ هي وحدها الاستثناء، والمثل الأبرز ما حصل في البرتغال بعد «ثورة القرنفل» في 1974. فإذ أطيح الحكم الديكتاتوريّ لكايتانو، وريث سالازار، صدر البيان التاريخيّ الشهير الذي يقرّ بالاستقلال لشعوب المستعمرات البرتغاليّة في أفريقيا، كأنغولا وموزامبيق، وصولاً إلى تيمور الشرقيّة في آسيا. وهي استقلالات ما لبثت أن تحقّقت.
أمّا الحالة الكلاسيكيّة، أي ثورة البلاشفة الشيوعيّين في 1917، فتقول غير ذلك، على رغم الجهد العمليّ والنظريّ الضخم الذي بذلته، وشاركها إيّاه ماركسيّون أوروبيّون كبار، للبرهنة على العكس. فـ «مرسوم القوميّات» الذي ظهر بُعيد الثورة، مؤكّداً على السيادة والمساواة وحقّ تقرير المصير، وصولاً إلى الانفصال، ثمّ اعتراف البلاشفة بسيادة بولندا وفنلندا ودول البلطيق الثلاث وباستقلالها، إنّما طوتهما الحرب الأهليّة في 1919-1921. فبالقوّة المحضة بدأت تستعاد أراضي الإمبراطوريّة القيصريّة، وبالقوّة المحضة بدأ يُبنى السدّ الأمنيّ المحيط بروسيا، ضامّاً آسيا الوسطى والقوقاز، وبالطبع بيلاروسيا وأوكرانيا. وفي 1924، حسم الدستور الجديد أمر العلاقة بين الأمم والقوميّات لمصلحة المركزيّة القصوى، حتّى إذا كُتب الانتصار النهائيّ لستالين، بعد سنوات ثلاث، بوشر العمل بسياسة «الترويس».
والحال أنّه كلّما تضاعف التكسّر في وضع وطنيّ ما، تضاعفت الصعوبات الحائلة دون اتّساق أنماط الظلم والتكامل بين ضحاياها. كذلك كلّما قلّت «الأمّة» وافتقر الوطن إلى كونه وطناً، زادت تلك الأنماط وتضارب ضحاياها.
ومع الثورات العربيّة، قبل أن تنتصر أو من دون أن تنتصر، تبدو استحالة التوفيق سارية المفعول أيضاً. ففي سوريّة، تحرّرت «المستعمرة» اللبنانيّة قبل اندلاع الثورة السوريّة، ويتّضح الآن أنّ الجمع بين تحرّر «الشعب» من ربقة الحكم الأسديّ شيء وتحرّر الأكراد من الاجتماع السوريّ وأُطره شيء آخر. وفي اليمن، اصطبغت، واصطدمت، ثورة «الشعب» بثورتي الحوثيّين والجنوبيّين. وفي ليبيا، انفجرت الجماعات وهويّاتها ممزّقةً عباءة «الشعب» الثائر بدوره. وقبل ثورات «الربيع العربيّ»، كانت «الثورة» الأميركيّة في العراق أطلقت قضايا ثلاثاً على الأقلّ، تتقاطع كلّ منها، من غير أن تتطابق، مع ثورة «الشعب» المفترضة: قضيّة للشيعة وأخرى للسنّة وثالثة للأكراد.
وفي العقود الأخيرة، لم تكن قليلة الإشارات غير المُنتَبَه إليها. يكفي التذكير بحزبين شيوعيّين كبيرين، كالسودانيّ والعراقيّ، ضمّا أعداداً من أكراد العراق وجنوبيّي السودان، قبل أن يعثر هؤلاء في أحزابهم «الخاصّة» على الأدوات اللازمة لحلّ مشاكلهم «الخاصّة».
فدعوات التحرّر الشامل ومحفوظاته ضعيفة الشبه بالواقع العنيد الذي يُستحسن بالسياسة أن تمنحه أولويّتها، من دون أن تخسر حلمها بيوم تغدو فيه تلك الدعوات ممكنة التحقيق. أمّا في يومنا هذا، حيث يتدبّر كلّ طرف أمره بالتي هي أسوأ، فأفضل ما تفعله السياسة جعل الأطراف تتدبّر أمرها بالتي هي أحسن.