يتعرّض الرئيس سعد الحريري لانتقادات واسعة في بيئته السنّية وفي بيروت، بسبب تنازلاته المتواصلة لفريق الحكم وحلفائه، بذريعة عدم تعريض التسوية التي عقدها معهم وأتت بميشال عون رئيساً للجمهورية وأتت به رئيساً للحكومة.
وتتركّز الانتقادات على سياسة الاستسلام للتحالف بين عون و»حزب الله» التي أدت إلى إضعاف موقع رئاسة مجلس الوزراء، وهو الموقع الرسمي الأول للطائفة الإسلامية السنّية في لبنان، والإجحاف الذي لحق بالطائفة وببيروت في التعيينات التي أجرتها حكومته في المراكز الرسمية الرئيسية والقضائية، ليس من ناحية العدد بل من ناحية استبعاد السُنّة عن كثير من المراكز المهمة والحسّاسة، وعدم تواصله مع قاعدته الشعبية، وخصوصاً في بيروت التي أعطته وللائحته صوتها في الانتخابات النيابية الأخيرة، وتجيير هذه المهمة إلى بعض المحيطين به الذين يتعاملون مع الناس بفوقية ولا مبالاة.
ومن المتوقّع أنْ تزداد الانتقادات حدّة، مع اقتراب موعد الاستحقاق النيابي، من المجموعات الحزبية والمدنية التي تناصبه العداء ومن الأشخاص الطامحين إلى مقعد نيابي، ولكن، هل كل ما يُقال عنه أو يُكتب ضدّه بريء، يهدف إلى لفت انتباهه إلى بعض تصرّفاته التي تضر بالطائفة، أم إنّ وراءه جهات تريد إضعافه في بيئته كي يفقد في الانتخابات المقبلة أكثر من نصف عدد أعضاء كتلته النيابية الحالية، الأمر الذي إما يُبعده عن السرايا الحكومية أو في أحسن الأحوال يُعيده إليها بشروطها؟
معلوم أنّ الحريري أتى على رأس حكومة تجمع الأضداد السياسيين في ظروف قاسية كانت تمر بها البلاد، نتيجة حروب المنطقة وفراغ رئاسي طويل تعطّلت خلاله أعمال المؤسّسات الدستورية وعمّت الفوضى الإدارات الرسمية. واستطاعت حكومته في أشهر قليلة تحقيق بعض الإنجازات المهمة التي عجزت عن تحقيقها الحكومات السابقة ومنها: إقرار قانون انتخاب جديد قد يحقّق بعض الاختراق في الجسم السياسي وتجديد دورته الدموية، ونقل البلاد من حالة المراوحة إلى مرحلة إحراز نقلة نوعية، إلا أنّه لا يلبّي طموحات اللبنانيين ولا يحقّق التمثيل الصحيح ويُبقي مجلس النوّاب إلى حد كبير تحت هيمنة زعماء الطوائف، حيث جذّر القانون المفهوم العصبي للانتخاب الذي يولي الأهمية القصوى للطوائف والمذاهب والمكوّنات السياسية القائمة من خلال الصوت التفضيلي.
وإقرار سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام الفاسد بمعظمه وغير المنتج، بعد انتظار سنوات، تموّل من جيوب اللبنانيين الذين يعانون صعوبات جمة في تأمين متطلّباتهم اليومية.
وتحرير الجرود من الإرهابيين وإقفال ملف العسكريين المخطوفين، وإنجاز موازنة بعد 12 عاماً وهي خطوة في الطريق الصحيح، وإنْ خلت من رؤى اقتصادية وإصلاحات جذرية.
وتعيين رئيس وأعضاء المجلس الاقتصادي – الاجتماعي الذي نأمل منه أنْ يتعامل مع الملفات الاقتصادية والاجتماعية بجدية وبطريقة عصرية وعلمية، وألا يكون مصيره مثل مصير المجلس السابق. وإنجاز قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهو قانون مهم سيؤدي في حال عدم وضع العراقيل أمام تطبيقه إلى إيجاد الحلول الجذرية لعدد كبير من المشكلات التي تعانيها البنى التحتية.
كما أقدمت الحكومة على إجراء تعيينات في عدد من مراكز المسؤولية الإدارية الحسّاسة، وإتمام التعيينات الدبلوماسية والتشكيلات القضائية. وفي هذا المجال يتساءل الشارع السنّي بحسرة لماذا يقبل الحريري بربط تعيين محافظ جبل لبنان بمحافظ البقاع الذي يواجه تعيينه مشكلة قانونية، ولماذا وافق على اقتطاع قضاءَيْ كسروان وجبيل من محافظة جبل لبنان ما يُفقد هذه المحافظة الكثير من أهميتها، ولماذا لم يقايض موافقته بصلاحيات تنفيذية لمجلس بلدية بيروت إسوة بباقي البلديات؟، ولماذا وافق على تشكيلات قضائية فيها إجحاف في حق السُنّة خصوصاً في المحكمة العسكرية والنيابات العامة في جبل لبنان؟
ومع أنّ هذه التعيينات والتشكيلات كانت ضرورية لتفعيل عمل الإدارة والمؤسّسات، إلا أنّه طغى عليها معيار المحاصصة والانتماء الحزبي والسياسي بدلاً من معيار الكفاءة والجدارة، ما أفقدها الشفافية وحرَم كثيرين من أصحاب الكفاءات من دخول ملاك الدولة.
وما يثير الاستغراب بقاء السلطتين التنفيذية والتشريعية متداخلة الواحدة مع الأخرى، والسلطة القضائية تحت رحمة التدخّلات السياسية من كل الأطراف السياسيين، بينما المطلوب هو الفصل التام بين هذه السلطات كي تستقيم الأمور.
ولا يتحمّل الحريري وحده مسؤولية التخبّط الحاصل في أداء الحكومة وتجاوز أعضائها لصلاحياتهم، وإنْ كان يتحمّل جزءاً منها، بموافقته على سياسة المحاصصة والتقاسم التي تعتمدها حكومته، على مبدأ اختصار كل طائفة بزعيمها أو بممثليها في الحكومة. فيما تكمن مشكلة الحريري مع طائفته في أنّه يضع مصلحة لبنان العليا فوق كل اعتبار، ولا يرى مانعاً من تقديم التنازلات في سبيل تحصين الوطن، بينما ترى الغالبية في طائفته أنّ تحصين الوطن هو مسؤولية الجميع وتطالبه بوضع مصلحة الطائفة في المقام الأوّل إسوة بالآخرين، وترى أنّ السياسة التي يتّبعها إرضاءً لـ»التيار العوني» و»حزب الله» من أجل الإبقاء على حكومته فيها انتقاص من سلطته، ومن حقوق طائفته وكرامتها.
وفي رأيي، إنّ النهج الطائفي الذي يطغى على الحياة السياسية لا يبني وطناً متماسكاً ووحدة وطنية حقيقية، بل يُبقي الوطن مقسّماَ ومشرذماً.
ما كتبته ليس فيه انتقاص من شخص الحريري ومن دوره الوطني، فهو رغم تدنّي شعبيته في بيئته ما زال الزعيم الأبرز في طائفته، وعليه من أجل الحفاظ على موقعه السياسي الصمود أمام الإغراءات والثبات على المواقف الوطنية والعربية التي تؤمّن بها بيئته والتوقّف عن التنازلات والاحتماء بطائفته وبجمهور الحرية والسيادة.