IMLebanon

سحر البلاغة والوداعة

أبحث عن لبناني غالباً في اعلانات النعي. أحزن للغياب واتعزى بأسماء النعاة وصلات النسب والقربى. انطوانيت زوجة محمد، وعائشة زوجة علي. تطمئن لائحة الاحياء والاموات إلى ان فينا بشراً وأنساً. النعي العائلي لكلوفيس مقصود جاء من عائلة عمّه مالك سلام، عائلة كلوفيس الوحيدة بعد أمه. كأنما كُتب له ما كتبه لنفسه، أن يكون نموذج العربي الذي لا يكون. العربي الذي يولد مسيحياً، ويعيش عربياً، ويموت منعياً من عائلته المسلمة.

من الصعب، أو من المستحيل، أن تلصق كلوفيس بطائفة أو فئة أو حزب إلا العروبة. عرفها في ذروة قيامها وظلت فتنته حتى اليوم الأخير. رفض أن يقبل، أو أن يصدق أن العرب داسوا عشقه وتركوه وحيداً.

قبل ساعة واحدة من غيبوبته، اتصل برفيق خليل المعلوف ليخبره أنه عائد من مهرجان في واشنطن، ألقى فيه خطاب العروبة والقضية. كم استغرق الخطاب؟ لا ندري. ما لم يوقف عن الخطاب لن يتوقف، وفي أي حال هوى دماغه العبقري النقي قبل أن تصله اخبار اللافتة التي رفعت في جونية: “جونية عاصمة المسيحية المشرقية”.

بالنسبة إليه، كانت عاصمة المشرق، بيروت. ومنبر العروبة بيروت. وسعة العروبة بيروت. وملتقى العروبة باديانها لبنان. لأن لبنان فكرة محدودة وخريطة مرسومة، أما بيروت، فأفق لا هوية. متروبول العرب. حديقة المشرق ودرة المشارقة. لؤلؤة الأمة التي تقع على اطرافها جونية وكسروان وما يليهما من أقضية.

لم ننتظر غيابه لكي نعرف مدى مكانته. كل مكان مرَّ به، مرَّ به عالياً ومتفرداً. وكان مالىء الامكنة مهما اتسعت وازدحمت. كان براقاً متألقاً في نيودلهي وملايينها. وكان لامعاً متألقاً في واشنطن ونيويورك. شاهراً في وجه خصومه ومنازليه سيف البلاغة الانكليزية أو العربية، مجرِّداً اعداءه واحباءه من سلاحهم بما ينشر حوله من طيبة، صوت عبقري ووجه طفولي آسر بوداعته، وطباع مثل ورود لا اشواك فيها.

غريب، كلوفيس مقصود. لم يكن غريباً في أي مكان. يحل سفيراً للجامعة العربية في عاصمة، فلا يلبث أن يبدو سفيراً للدولة التي انتدب إليها. في نيودلهي، كان جزءاً من عائلة نهرو ومودات انديرا غاندي ورفيقاً لكريشنا مينون وشاستري، وكل من تزعم حزب المؤتمر. وعندما حل سفيراً في واشنطن ليواجه أعتى لوبي سياسي فيها، أي الاسرائيلي، عثر ببلاغته ووداعته على أصدقاء من نوع زبيغنيو بريجنسكي وجورج ماكغفرن في عزّه. وفي منزله التقيت رجالاً من حجم وليم فولبرايت.

ذات يوم استوقفه أميركي على رحلة بين واشنطن ونيويورك من مناصري اسرائيل، وقال له: أنا اكره ما تقول حتى العمى، لكنني منبهر بالطريقة التي تقوله فيها. لم يكن لأحد خيار في الإعجاب به والوقوع تحت سحر مودته.

في واشنطن وفي نيودلهي وفي القاهرة، كان كلوفيس علماً، لا مقيماً. وكان يضحك مع الضاحكين من اسمه الافرنجي الذي لا يترك مجالاً في اعلان هوية الولادة. وكان عبد الناصر يمازحه قائلاً، كيف كلوفيس وشيخ العروبة في وقت واحد. لكنه لم يكن يعتقد أن أحداً يتقدمه في مشاعره العربية حتى جمال عبد الناصر. ولذلك، لم يكن يدافع عن هذا “النقص”، تماماً أنه لم يزلّ لسانه بحرف طائفي في حياته.

حيثما حل، كان سفير جميع العرب، سفير السفراء. وفي منزله كان يحل الزوار الكبار. وفي القاهرة كان يستضيف “الرفاق” من ياسر عرفات، إلى “ابو جهاد” خليل الوزير، إلى سياسيي اليمن، إلى طبعاً القادمين من رفاق لبنان.

عندما شعر بتغيير المناخ السياسي في القاهرة عاد إلى لبنان، وانضم إلى “النهار” بعد سنوات طويلة في “الاهرام”. ومن خلال عمله الفلسطيني تعرف إلى هالة سلام. وفي البداية عارض أعمامها آل سلام، واخوالها آل كرامي الزواج. ولكن بعده رمى كلوفيس سحر البلاغة والوداعة على العائلتين. وكان مالك سلام يتحدث عنه كما يتحدث عن ابنه. كما كان يصغي إليه، هو ورشيد كرامي، كمن يصغي إلى حارس من حرس العائلة، إضافة إلى مهمته الدائمة كحارس للعروبة.

أحبته العواصم وحسدته بيروت. تضايق رفاقه من الإطار الأممي الذي حفره لنفسه. ولم يملك الحاسدين سوى نحت النكات البائخة، فكان كلوفيس يتلقفها ويرويها بنفسه ويضحك لها أكثر من سواه. ولا شك في أنه كان اكثر ايماناً بعروبته وأكثر اخلاصاً وتوقيراً لها، من جميع مخلصيها وادعيائها.

كان يرى بعد تجربة طويلة في السياسة، بدأت مع كمال جنبلاط في الحزب التقدمي، ان لا حل للأمة إلا بالعروبة. ليس كقومية ولا كعِرق، بل كهوية احتضانية تضمن العدالة للجميع وتحمي البلدان من التفتت تحت غرائز وانفعالات شتى. ورأى أن المسألة الفلسطينية، بابعادها الإنسانية وعناصرها العالمية، يمكن أن توحد العرب حول رؤية واحدة لسبل المستقبل.

حمل معه من أوكسفورد الاقتناع بالحل المدني للمعضلات المتشابكة، لكنه وجد العالم العربي ينزلق نحو القبليات المبطنة بشعائر تبطن النيات الرديئة والتربص بالآخر. لم يشأ أن يبحث – مثل سواه – عن مكان يبقي المسيحي في أرضه، بل عن نظام سياسي واجتماعي، يرَّقي الأرض والعلاقة بها، أمام كل عربي. بعدها يصبح الترقي عاماً.

لكن أي حل مدني في بلاد يقع فيها – في سوريا وحدها – عشرون انقلاباً عسكرياً في عشرين عاماً؟ من العسكريين إلى الاصوليين دفعة واحدة. لم يشأ كلوفيس مقصود أن يكون حزبياً أو داعية لأي ايديولوجيا. كانت فلسفته بسيطة وبلاغته معقدة: لن نجعل من البديهيات شعائر تعدو خلفها الجموع، لكننا نريد أن نعيش حياة تتحول فيها الممارسات إلى شعارات ثابتة.

غيَّر احتلال العراق الكويت حياة كلوفيس، فترك الجامعة العربية إلى التدريس الجامعي في “الواشنطن يونيفرسيتي”. ووسع دائرة عمله الإنساني من الإنسان العربي إلى الإنسان الآسيوي. وكانت له القدرة دائماً على جمع الداعمين والمؤيدين من حوله. ورمى سحر البلاغة والوداعة على طلابه وزملائه الاساتذة. وحوَّل الدائرة التي أسسها حول العالم الثالث إلى قلعة من الحيوية. وأقام لهالة سلام مقصود كرسياً خاصاً في جامعة جورجتاون. ولم يترك جامعة كبرى في أميركا الشمالية لم يقف فيها محاضراً. وخلال سفارته في نيويورك وواشنطن ربط بكل ذكاء حركة الحقوق المدنية بحركة العمل الفلسطيني.

وبعد نهاية النظام العنصري في جنوب أفريقيا، كان يتمنى أن يرى حلاً مشابهاً في فلسطين، ويقول، على طريقته: “أبحث عن مانديلا و ف. دبليو دو كليرك”. ولكن أين يريد البحث عنهما؟ بعد 1967 اقترح غسان تويني أن تزحف مسيرة عربية على القدس لاستعادتها. وسارع المناضلون إلى اتهامه بالأمركة والانهزامية. وعندما صدرت مذكرات غولدا مئير قالت فيها: جلسنا بعد احتلال القدس ننتظر، في رهبة، أن يهجم علينا مليونان إلى ثلاثة ملايين عربي. لكن أياماً مضت ولم يطل أحد، فخلدنا إلى النوم.

عاش كلوفيس مقصود داخل حلمه وذاته رافضاً أن يصدق ما يرى. وكان يعتب على سركيس نعوم لاستخدامه تعبير “الشعوب اللبنانية”، فاقول له في قسوة الصداقات: تفضل. هل لديك تعبير أفضل؟ فيردّ بوداعته: لا. ولكن ليس هذا. وغاب وقد سبقته الرحمة. لم يرَ لافتة “جونية عاصمة المشرقية المسيحية”. ولكن بلغه قول مرشحه للرئاسة زياد بارود، إنه لن يقترع في الانتخابات البلدية. ليس في ديار المسيحية المشرقية وما يليها.