«لطالما سعى البشر لملء ثغرات معرفتهم بالأساطير
لكن كلما وسعت المعرفة كلما ضاقت مساحة الأسطورة»
جوزف شومبيتر هو أحد أهم منظري الفكر الإقتصادي والسياسي في القرن العشرين، ولا تزال نظرياته حتى اليوم متداولة بين كبار الباحثين لما فيها من عمق وجدية. سنة ١٩٤٢، وكان وقتها أستاذاً في جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأميركية، أصدر كتاباً عن الرأسمالية والديموقراطية والإشتراكية شرح فيه رأيه بتلك النظريات مؤكداً، ومع رفضه للأفكار الإشتراكية، بأن الرأسمالية تحمل بذور انهيارها في داخلها.
في أحد الفصول طرح مبدأ «التدمير الإبداعي»، وهي نظرية أصبحت مرجعية كبرى للمنظومة الرأسمالية. يقول الكاتب: «لا يمكن بناء أي شيء جديد وعظيم إلا على أنقاض القديم المتهالك، وبالتالي فالتدمير هنا ليس سلبياً إذا ما جاء في وقته لأنه ممر إلزامي للخلق والإبداع. وكل المبدعين الكبار في شتى المجالات من أدبية واقتصادية وسياسية وفلسفية وفنية كانوا مدمرين كباراً».
أظن أن منظري الإدارة الأميركية عندما صاغوا نظرية «الفوضى الخلاقة» سنة ٢٠٠٣، اعتمدوا أساساً على نظرية شومبيتر بما يخص التدمير الإبداعي. والفكرة هنا ترتكز على أن الأوضاع المسجونة في قفص لا يمكن تغييرها الا بتفجيرها بالكامل ومن أساسها، وضرب الأنماط والتقاليد القائمة حتى يصبح من الممكن التغيير إلى الأفضل، والأفضل هنا هو تعبير نسبي خاضع بالتأكيد للنقاش.
لكن المؤكد هو أن هذا الامر يصبح ضرورياً عندما تكون المنظومة غير قابلة للإصلاح، أما المنظومات الناجحة والمنتجة فيمكن دائماً البناء عليها وتحسين أوضاعها بناءً على المستجدات، إلى أن يأتي يوم وتُستبدل بالكامل بمنظومة أخرى. لكن تقدير ما هو غير قابل للإصلاح وما يمكن إصلاحه يبقيان عرضةً للجدل النظري غير المبني على المعطيات العلمية في معظم الأحيان، وبالتالي يبقى الإستنساب هنا سيد الموقف.
ما لنا ولكل تلك النظريات ولست هنا لمحاولة التسويق لها، مع اقتناعي بمنطقية بعض طروحاتها. لكن المؤكد أن تركيبة منطقتنا من الناحية السياسية والإقتصادية والإجتماعية وحتى الفكرية، وصلت منذ عدة عقود إلى مرحلة الإستنقاع، ولم تعد هناك إمكانية للتغيير من دون نسف معظم القواعد القائمة من أساسها، وبعضها مقدس ومعبود أحياناً.
على الرغم من هجائنا المستمر على مدى مئة عام خلت لمؤامرة «سايكس – بيكو»، لكنها اليوم تبدو كأنها كانت اجتهاداً إصلاحياً بالمقارنة مع ما نراه اليوم. فالواضح أن محاولة بناء أوطان من الكيانات التي ابتدعتها تلك المؤامرة في الحرب الكونية الأولى، والتي استندت على فوضى تلك الحرب، أو تدميرها الإبداعي، محاولةً الإستفادة منها لخلق منظومة أخرى «أفضل!؟» مما كان قائماً قبل ذلك.
لكن، ومع مرور الزمن، تبين أن هذه الكيانات ما كانت إلا معادلة كيميائية شديدة الحساسية، وتحتاج إلى كمية هائلة من الطاقة للحفاظ على ثباتها. وهكذا فإن ثبات تلك الكيانات كان بوجود سلطات قمعية قادرة على بذل أقصى ما يمكن من عنف للحفاظ على الكيان ووحدته.
بالمحصلة فقد وصلت الأمور إلى حد لم تعد تنفع تلك الإجراءات إلى ضبط الكيانات، فانهارت المنظومة بمجرد رفع الغطاء عن السلطات القائمة.
لكن المؤكد هو أن أحد أهم عناصر الفوضى الخلاقة التي بشرت بها «كونداليسا رايس»، ونجح حتى الآن القسم الأول منها، أي الفوضى! كان مشروع ولاية الفقيه الذي ساهم بشكل فعال في خلق هذه الفوضى من حول مركزه، وحقق جزءاً كبيراً من رؤيا الشيطان الأكبر. ويكفي أن نراجع ما تسبب به هذا المشروع من تخريب مدمر في المنطقة ليكون اعتماد كونداليسا رايس الأساسي على ولاية الفقيه لتحقيق نبوءتها.
الواقع حسبما يمكن استنتاجه اليوم هو أن كونداليسا رايس وفريقها من المنظرين، كانوا يعتمدون على فكرة نشر الثورة التي انطلقت منذ اليوم الأول لعودة الخميني إلى إيران برعاية غربية واضحة، فاستفادت منها الإدارات السابقة بمنع وصول القوى اليسارية لتكون شريكاً في السلطة من بعد الشاه، في وقت كانت الحرب الباردة في ذروتها، ومن ثم تمكنت من إدخال بعض العرب في صراع دموي مكلف كانت واجهته الحرب مع العراق.
ولكن بعد سنة 2001 وسقوط البرجين في نيويورك، ظهرت رؤيا التدمير الإبداعي أو الفوضى الخلاقة لتفتح الأبواب للحرس الثوري وفرقه المتعددة لتنفيذ المشروع بعد اجتياح العراق وإزالة العائق الأهم في سبيل انفلات تلك القوى في المنطقة بأكملها.
هذا لا يعني أبداً أن الولي الفقيه ينفذ بوعيه الكامل هذا المشروع، لكن الشيطان الأكبر الأميركي تمكن من توظيف تلك الأسطورة الماورائية، وسعيه للسيطرة، في سبيل إنجاح تلك الرؤيا بالشكل الذي نراه اليوم إنهياراً شبه كامل للمنظومة القديمة، في وقت لم تظهر فيه بعد معالم الجديد.
(*) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»