Site icon IMLebanon

الإرهاب الغنيّ والإرهاب الفقير

ربّما كنّا نعيش طوراً ينحدر فيه الإرهاب من الغنى إلى الفقر. وتقدير كهذا، في حال صحّته، لا بدّ أن يرتّب من الخلاصات والنتائج ما يفضي إلى تحوّلات بارزة على غير صعيد.

والحال أنّه حين تتراجع القدرات الماليّة لمنطقة ما، تتراجع عائدات منظّماتها الخارجة على الدول مثلما تتراجع عائدات دولها التي تطارد المنظّمات. فإذا اجتمع إلى العامل المذكور تشدّد دوليّ، وخصوصاً أميركيّ، في تجفيف النسغ الماليّ المغذّي لشرايين الإرهاب، أمكن لنا أن نتوقّع نتائج كهذه.

أمّا العنوان الأبرز اليوم، من غير أن يكون الأوحد، فأحوال «داعش» الماليّة. ذاك أنّ الضربات الجوّيّة للتحالف وللطائرات من غير طيّار أفقدت التنظيم الإرهابيّ قدرته على إنتاج النفط واستقدام المهارات، فيما يُرجّح أن تكون المعابر، بما فيها التركيّة، قد أُحكم إغلاقها في وجه تهريبه وتسويقه.

وقد قُدّرت، قبل عام، طاقة «داعش» على إنتاج النفط في الحقول السوريّة والعراقيّة التي سيطر عليها بحوالى 80 ألف برميل يوميّاً، كانت تعود على التنظيم بملايين الدولارات في اليوم الواحد.

في الوقت نفسه بات واضحاً أنّ تنقية النظام المصرفيّ اللبنانيّ من «حزب الله» وحساباته باتت شرطاً شارطاً لبقاء لبنان على خريطة العالم المصرفيّة وفي أسواقه الماليّة. وهنا سرّ الهياج الذي يطلقه الحزب ومناصروه على حاكم البنك المركزيّ اللبنانيّ رياض سلامة. ويظنّ كثيرون أنّ الانفجار الأخير على مدخل «بنك لبنان والمهجر» في بيروت إنّما يندرج في الإطار هذا.

وعلى قدم وساق تسير، في الولايات المتّحدة وكندا، مصادرة الأموال والأرصدة الإيرانيّة لتعويض ضحايا الإرهاب الإيرانيّ والمرعيّ إيرانيّاً. ويوم الأحد الماضي نقلت الزميلة «الشرق الأوسط» أنّ السعوديّة «اتّخذت إجراءات نظاميّة بحقّ 171 حساباً بنكيّاً، داخليّاً وخارجيّاً، في إطار مكافحتها تمويل الإرهاب». وأضافت الصحيفة: «يأتي ذلك في وقت حذّرت فيه الرياض الأشخاص والكيانات (مؤسّسات – شركات) من جمع التبرّعات من دون ترخيص من الجهات المختصّة، انتهازاً لرغبة المواطنين والمقيمين في العمل الخيريّ».

وهذه الوقائع وسواها لا تقول بالضرورة إنّ الإرهاب سوف يغادرنا، وهو تقدير يبقى صحيحاً حتّى لو خُلّصت الفلّوجة ومنبج والرقّة وسواها من «داعش». فالإرهاب الغنيّ استثناء على الإرهاب منذ نشأته التي يعيدها البعض إلى «الورعاء» (زيلوتس) في التاريخ اليهوديّ. كما أنّ الإرهاب الذي يقيم سلطة تنظّم، سنة بعد سنة، أمور الناس على رقعة ثابتة من الأرض، ليس القاعدة في الإرهاب وحركاته.

ما قد نكون في صدده إذاً تعميمٌ واسع لنمط العنف الفلسطينيّ الراهن في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ، بضرباته العمياء واليائسة في وقت واحد، وإن بوتيرة أعلى وساحات أوسع وأسلحة أعقد وضحايا أكثر.

وما يعزّز هذا التقدير أنّ الوجهة السياسيّة التي تتحكّم راهناً بالقضاء على الإرهاب لا تؤسّس بيئة سياسيّة مانعة له جذريّاً. ذاك أنّ عنفها الأحاديّ، وتغليبها أطرافاً أهليّة على أطراف أهليّة أخرى، وغضّها النظر عن أنظمة ذات إسهام ملحوظ في نشأة الإرهاب ورعايته، وأحياناً تنسيقها معها، هي كلّها وصفات للعنف الإرهابيّ ولو من دون مال.

وفي هذا، فإنّ منطق ما يجري اليوم من «حرب على الإرهاب» يشبه منطق الحصار في عقابه الجماعيّ لضحاياه، وتلوّنه بلون الثأر والانتقام منهم بلا تمييز، فيما يُترك الجاني، أكان حاكماً مستبدّاً أم تنظيماً إرهابيّاً، يعزّز قبضته على الرقاب، مغيّراً أشكال تحكّمه بحياة البشر وموتهم من دون أن يتغيّر التحكّم نفسه.