ليس لبنان بلد التشييع اليومي لأبنائه، انّه ايضاً البلد الذي يودّعهم في هجراتهم الإضطرارية، وإذا عاد واستقبلهم فعلى وقع المواسم الطائفية التي “تذهب وتعود قوية” بقيادة أشخاص امتهنوا الإنقسام واللامُواطَنَة مهنةً، ومنع المحاسبة قراراً.
يقول ريتشارد هاس مدير السياسات الخارجية السابق في إدارة الرئيس جورج بوش الإبن، في حديث قبل ساعات، انه “لا تتوفر المتطلّبات الأساسية للإستقرار السياسي أو الإصلاح السياسي في لبنان… ولا أرى بصيص أمل… لبنان دولة فاشلة”…
في بلد “التخيّلات الديموغرافية”، ومع انتقال السلطة الفعلية من المخابرات السورية الى “حزب الله” المدعوم من ايران، لم يعد للدولة معنى، تحوّلت جهاز توظيف وتوزيع خدمات. إنتفت عنها صفة الحصرية كمرجع قانوني وأمني، وغابت المحاسبة مع تحويل القضاء، عمود الدولة الثالث، الى شاهد يلبّي رغبات القوى المهيمنة.
ولسنا نظلم أحداً، ولا يفوتنا وجود قضاة شرفاء، لكن أياً من الجرائم الكبرى المرتكبة في تاريخنا الحديث لم تأخذ مسارها الى الكشف والمحاسبة، فغابت العدالة ونفَذَ المجرمون بفعلتهم واستثمروها غَلَبةً في مشروعهم السياسي.
لم يُحاسب أحد في إغتيال كمال جنبلاط أو المفتي حسن خالد، ولم تُكشَف الحقيقة كاملة في اغتيال بشير الجميل وإيلي حبيقة، ولم يُحَقّق في اغتيال رينيه معوض… واليوم تسود الشكوك، بالرغم من بعض الأمل، في مصير التحقيق بالجريمة الكبرى: تفجير مرفأ بيروت وأهلها من كل نواحي لبنان.
وحده التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه سلك مسار الجدّية في الوصول الى نتائج، واليوم تُصدر المحكمة الدولية حكمها استناداً الى تلك النتائج، والحصيلة تكاد تكون معروفة، وسيواجهها رافضوها بالرفض والمقتنعون بها بالإرتياح، فيما المطلوب أن يقتنع الجميع بأنّ طريق الهروب من الحساب مسدود، وأنّ بناء الدولة يبدأ باستقلال وحرية السلطة القضائية في التحقيق وإصدار الأحكام وتنفيذها.
هذا ما ينبغي أن يحصل في تحقيقات جريمة تفجير بيروت ونتائجها الكارثية، ولا يفيد هنا جمع الغضب في مستودعات الى جانب مستودعات السلاح، فقد آن الأوان لتجربة العودة الى الدولة والحياة الطبيعية… وإلى قانونٍ… يكفي شرطي واحد لتطبيقه وإنفاذه.
انه وقت الإختيار بين توقّعات ريتشارد هاس السوداوية، وبين الطموحات المولودة في قلب المأساة والإنهيار الشامل لصاحبه تحالف الفساد والميليشيا.