يقفل العام 2015 على مجموعة من المآسي والكوارث والنفايات من كل حدب وصوب.
التقليد المتبع في مثل هذه الأيام تعداد إنجازات العام المنصرم والتوقعات للعام الآتي… لكننا لا نعثر على الكثير من الإيجابيات التي يمكن الاعتزاز بها والتوقف عندها. ومع تواصل الأجواء البركانية في المنطقة يبقى الوضع اللبناني هاجساً لا يمكن التفلت منه بسهولة، وأصبح مجرد انعقاد جلسة لمجلس الوزراء هو الحدث!
ومن المؤسف ما تقرّر في الجلسة الحكومية الأخيرة من حيث الموافقة على «صفقة النفايات» في أزمة أقامت الجمهورية ولم تعقدها بعد. أما الإنجاز الآخر بخصوص الشغور الرئاسي وما تردّد، ولو في شكل غير رسمي، حول «مبادرة» الرئيس سعد الحريري بطرح اسم سليمان فرنجية في المزاد السياسي، فإذا كان لا بد من الإشارة إلى هذا الموضوع، فلا شك في أن المبادرة أو التسوية أو سمها ما شئت، قد عصفت بصفوف التجمّعين 8 و14 آذار على حد سواء، الأمر الذي أفسح في المجال أمام قيام خريطة جديدة من المكونات السياسية اللبنانية، مع ملاحظة أن رأب الصدع أو إحلال التوافق بين حلفاء الأمس، أصعب بكثير من التوصل الى وفاق بين الأعداء السياسيين او حتى «الأعدقاء».
واستناداً «الى» التطورات الأخيرة، فإن لبنان يعاني حالياً من ارتدادات الزلزال الذي حدث على مقياس ريختر- الحريري.
كان هذا هو الموجز وإليكم التفاصيل.
حوار بين لبنانيين من وحي المرحلة:
الأول: كيف كان العرض الأول من حيث النصاب والحضور؟
الثاني: كان الوضع سيئاً جداً لدرجة انه لم يحضر احد.
الأول: وكيف كان الوضع في اليوم التالي؟
الثاني: في العادة يكون الحضور أقل بكثير من اليوم الذي سبقه.
هذا الحوار الافتراضي يعكس حالة الإحباط السائدة لدى الأطراف و»الفصائل» اللبنانية على اختلاف التوجهات والمشارب.
وحول الحراك الهامس حيناً والصاخب حيناً آخر، بعض الكلام الذي يجب ان يقال.
اولاً: ما زال الوطن في حال بحث عن رأسه ولا تزال الجمهورية بلا رئيس، وإذا لم يتم العثور على «الشخص»، لا في «كوكب الرابية» ولا في «كوكب بنشعي»، ففي اي كوكب آخر يمكن العثور على الضالة المنشودة؟
ثانياً: منذ الإعلان للمرة الأولى عن اسم سليمان فرنجية كمرشح لرئاسة الجمهورية من جانب رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري، والأوساط السياسة اللبنانية على اختلافها تشهد دينامية واضحة في غير اتجاه ولدى اكثر من تيار منها الإيجابي المؤيد ومنها السلبي ومنها المتحفظ، لكن هذه «البادرة» نجحت في تحريك المياه الراكدة المحيطة بإنهاء حالة الشغور الرئاسي منذ ما يقرب من ثمانية عشر شهراً.
ثالثاً: كل هذا اللغط السياسي الناشب، الذي أدى إلى خلط الكثير من الأوراق على الصعيد المحلي تحديداً، فنشأ عن ذلك تصدع وانقسامات في بعض التحالفات سواء ضمن التجمعين التقليدين 8 و14 آذار او في صفوف تكتلات اخرى، يظهر معها من جديد حال التجاذب الوطني الذي يعصف بالبلد افقياً كان ام عمودياً.
وحول «الحراك الرئاسي» القائم لتذليل ما يعترض انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية وما نشأ من عقبات وإشكاليات، تجدر ملاحظة الآتي:
ان التوافق والصلح ما بين الحلفاء يكون في العادة اصعب من تسوية خلافات «الأعدقاء». فنجاح المساعي الهادفة الى تأمين انتخاب رئيس للجمهورية مسؤولية وطنية جامعة تعني جميع اللبنانيين من دون استثناء، كما ان استمرار الفشل على ما هو عليه حالياً ينطوي على فشل وطني يطاول الجميع. ذلك ان الخروج عن النص اللبناني المتكامل يطال جميع الشركاء في الوطن ضمن الصيغة التي ارتضيناها منذ فجر الاستقلال الأول في 1943 إلا اذا كان البعض يريد الخروج نهائياً عن السيناريو المعتمد، وعندها يجب العمل على ادخال تعديلات جوهرية على صيغة «العيش المشترك».
وهنا يندرج التساؤل التالي: هل ان لبنان بحكم موقعه الراهن بلد موحد فعلاً يجب العمل على منع تقسيمه بكل الوسائل المتاحة! ام ان لبنان بواقعه بلد منقسم على نفسه ويجب العمل بشتى الوسائل المتاحة لإعادة توحيده؟
اذاً، وحتى لا نبقى في حال الاشتباك مع الذات، يجب التفاهم بالسر وفي العلن وبكل صدق وشفافية على مقوّمات وطن يدعى لبنان وعلى انه ما زال قابلاً للحياة بصيغتة الحالية، حيث يتمتع كل مواطن بالفرص المتساوية من حيث الشراكة في الوطن.
لقد فشل اللبنانيون في تطبيق مبدأ «لبننة» اختيار رئيس جديد للجمهورية. وعليه تم ترحيل الأزمة الرئاسية الى الخارج، لكن بأي منطق نستدعي العالم الخارجي للتدخل في شأن داخلي بحت ونرفع شعار السيادة والحرية والاستقلال؟
هذا هو التناقض بعينه وهذا هو الاشتباك مع النفس، وهذا هو فشل تجربة حكم انفسنا بأنفسنا.
لقد بح الصوت ونحن نكرر: يا سادة يا كرام على اصحاب الشأن والحل والربط، تخطوا كل الأنانيات والمصالح الفردية للشخص وارتقوا الى المستوى الوطني الذي يليق بلبنان.
نكرّر هذا النداء ونضيف: سارعوا الى استدراك الفشل الوطني الذريع، وتحديد الضرر الوطني والاقتصادي والاجتماعي، لماذا؟ حتى لا يقرر آخرون عنكم؟ وكي يتمكن «المسيحيون» من التفاهم والتوافق في ما بينهم، «ونحن نبصم ونوافق».
ولم يتمكن اهل الحل والربط او من بقي منهم في الجانب المسيحي من الاتفاق على «الشخص» من بينهم، وبعد ما يزيد على ثمانية عشر شهراً على اندلاع «ازمة الاختيار» برزت محاولة الرئيس سعد الحريري كسر جدار المراوحة في هذا المجال، فقوبلت مبادرتة ولا تزال بالكثير من العقبات. وظهرت التناقضات السياسية والطائفية البغيضة التي تحكم وتتحكم بواقع لبنان لتعكس مرة جديدة حال الشتات والتشرذم بأبشع مظاهرها، ويتم التمديد ليس في الرئاسة الأولى فحسب، إذ حالة الشلل تتحكم بأعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية.
متى حدث ذلك في يوم في شهر في سنة؟ لا يمكن اعتبار ذلك انجازاً للمسيحيين والطائفة المارونية تحديداً كما ان الفشل في تأمين هذا الإنجاز ليس فشلاً مسيحياً، وبالتالي مارونياً فحسب. وهذا حتى لا نبقى ضحايا بعض المفاهيم الخاطئة التي ترتبط مباشرة بصيغة عيش اللبنانيين في وطن نهائي وجامع بين جميع ابناء لبنان. فمنذ شغور مقعد الرئاسة، ارتفعت بعض الأصوات التي تتنصل من مسؤولية اختيار رأس الهرم.
نكتب هذه السطور ونحن في الأيام الأخيرة من العام 2015.
والأجواء الضبابية القاتمة تلف المكان والزمان في فترة وطنية بالغة الدقة والحرج، لنقول بقطع النظر عما سيؤول اليه «الكباش الرئاسي» بين «المرشحين المعلنين»: العماد ميشال عون، والدكتور سمير جعجع، والأستاذ هنري حلو. على الجميع ان يدرك ان مبدأ الشراكة في الوطن يحمل الكثير من الأعباء ومن المسؤولية على كل الأوساط اللبنانية من دون اي استثناء.
وعليه: يجب وقف عملية التسكع على ابواب الخارج، للاهتداء الى رئيس، لأن الرئيس الذي يكون صنيعة الخارج تكون مرجعيته الخارج، والأمل بالاهتداء الى «الشخص» الذي يكون من صنع محلي بعد طول الانتظار.
لقد بحّ الصوت لكثرة ما رددنا: يا سادة يا كرام انتهزوا السانحة التاريخية المتداولة والمطروحة، وسارعوا الى استدراك الأضرار والأخطار الماثلة امام الجميع، لأن لبنان ليس في سلم اولويات واهتمامات الخارج.
ان لبنان يستحق معاملة افضل بكثير من التي يحصل عليها. ولا نستطيع اللجوء إلى أبواب الخارج – والطلب الى بعض هذا الخارج ان يكون لبنانياً اكثر من بعض اللبنانيين.
وفي سياق متصل يحضرني الآن أحد اللقاءات الحوارية المتلفزة الشهيرة مع المعلم كمال جنبلاط. قلت: يتهمك البعض بأنك تريد ان تنزع الصفة المسيحية المارونية عن رئاسة الجمهورية، فهل من تطمين لهذا الفريق المتخوّف؟
أجاب المعلم، وهو في حالة صفاء ذهني متفوّق ومتميّز: نعم إنني أنتهز سانحة هذا اللقاء لأقول للخائفين من أبناء الطائفة المسيحية المارونية ان رئاسة الجمهورية باقية لهم، لكن لدي شرطاً كنائب يشارك في التصويت في عملية الانتخاب وهو ان أُعطى الخيار بين الماروني والماروني الأفضل، وليس بين الماروني السيء والماروني الأسوأ!.
ومرة جديدة أستمطر شآبيب الرحمة على روح المعلم وأردّد: رحمة الله عليك ايها المعلم ويبقى العزاء الأكبر بما تركته من تراث فكري وحضاري وهو الزاد الثري للأجيال الآتية كي تنهل من معينه الذي لا ينضب.
وحتى لا نفاجأ ذات يوم ونصحو على من يقرّر عنكم وباسمكم ويفرضه فرضاً على ارادة اللبنانيين، يجب وقف الجدال البيزنطي العقيم، والإرهاب من كل لون وحدب يضيّق الخناق على الجميع. وإذا لم يفلح اللبنانيون في الاتفاق في ما بينهم ولو في الحدود الدنيا، فإن الإرهاب وتوابعه لن يوفر أحداً.
وبعد…
يطل عام جديد على لبنان والمنطقة، ولا مجال للتفاؤل بحدوث تغييرات واضحة المعالم، بل هو الدخان الأسود القاتم الذي يحجب الرؤية. ونبقى على رجاء التمني بحدوث مفاجآت من كل نوع ولون مع خروج الأوضاع الإقليمية والدولية عن كل الضوابط، وكل شيء متروك للصدفة.
وفي كل حال أطيب التمنيات للبنان والمنطقة من الخليج إلى المحيط.