أخطأ القائل: «مَن يركب البحر لا يخشى من الغرق»! ما يحدث في منطقتنا أكثر هولاً من البحر. ربما كانت الأمواج العاتية أكثر أماناً. كل المخاطر مع بعض الأمل أقل هولاً من البقاء على اليابسة مع إحباط كامل.
هي حرب عالمية لا ضد جيوش بل ضد فكرتين هما الإرهاب والتكفيريين، ضحاياها الجانبية هم الناس وبعض الإرهابيين وبعض التكفيريين. هؤلاء يستطيعون الهرب إلى السلامة، أما الناس فلا أمل لهم إلا الخيار بين إحباط في أرضهم وأمل موعود في أرض غيرهم. فقدوا أرضهم ومواطنتهم واحترامهم لأنفسهم في أرضهم. يعاقبون على الأمل في بلادهم. ينشدونه في بلاد الله الواسعة. على الأقل، ركوب البحر يمنحهم فرصة النظر الفسيح؛ يخرجهم من الاختناق الروحي والنفسي، ناهيك بالاقتصادي وخطر الموت في بلادهم.
هي حرب عالمية تشارك فيها الدول العظمى والدول الإقليمية التي تسعى لأن تصير عظمى. تحوّل الشبيحة إلى طائرات، مع طيار ومن دون طيار؛ وتحوّلت الجيوش البرية إلى بلطجية مع كامل العدة؛ والجيوش البحرية تراقب. يخشى أن تتلاطم طائرات الجيوش المتنافسة في الجو، وأن تتطور الأمور إلى حروب في ما بينها؛ وأن تستخدم الأسلحة غير التقليدية مع فوران المشاعر. لم يبق سلاح لم يستخدم في هذه المنطقة. منطقة لا تعرف كيف تنتصر، لأنها لا تعرف كيف تنهزم. ربما كان النووي درساً يعلمه إدراك الوقائع، كما حصل لليابان في 1945.
أين المفر؟ كيف يعلم اللبنانيون أنهم لن يركبوا البحر مرة أخرى؟ لم يتعلموا من دروس حربهم الأهلية. الدرس الوحيد الذي تتعلمه الشعوب من تاريخها هو أنها لا تتعلم من التاريخ. مَن يراقب شباب الحراك وكهول اللجان النيابية وحكماء الحوار يدرك أن أحداً لم يعتبر بالتاريخ. ألغيت السياسة. يلحقون أحقادهم. لا مكان للدولة في وعيهم. منذ الطائف وهم يتحدثون عن العبور إلى الدولة ولا يعبرون. ربما كان مصيرهم عبور البحر.
في بلاد أخرى ألغى الطاغية السياسة. في لبنان تلغي الطبقة السياسية السياسة. ربما كانوا بحاجة إلى طاغية غير موجود ويستحيل وجوده. مساكين هؤلاء اللبنانيون؛ لا يعرفون من هي الطبقة السياسية. ألا يدين النواب الطبقة السياسية؟ ربما كان السبب هو أن اللبنانيين لا يعرفون الطبقة الحقيقية المستترة وراء الأحداث والتي تحكم لبنان.
ركوب البحر مغامرة. الدافع إليها أمل ربما لن يتحقق. ينتظر راكبي البحر عنصرية أو استغلال. لكن ركوبهم البحر بحد ذاته إعلان فقدانهم الوطن الذي صادره الطغاة وأتباعهم من الطبقة الحاكمة. لا يشعر هؤلاء بالمهانة. السلطة والبقاء فيها أهم من كل شيء آخر.
تتغيّر حدود الدول، في معظم الأحيان، مع الحروب العالمية؛ خلالها وبعدها. تنشأ كيانات جديدة. تطابق بعضها قوميات وإثنيات وأمما قديمة. ومعظم لا يطابق شيئاً سوى رغبات المنتصرين. ليس مهماً الخرائط التي ترسم للمنطقة والتي يتحدث عنها الخبراء؛ وغالبهم لا يعلمون. هل سوف تنشأ عندنا كيانات جديدة؟ وماذا نفعل بالقوميات والأمم الموجودة؟ ستزداد الأمور تعقيداً. أليس هذا هو القصد؟ قصد مَن؟
ربما كان أصل الحياة في الماء، في البحر، لكن الجنس البشري نشأ وتطوّر على اليابسة. شعبنا يعود إلى البحر مرة أخرى. أليس في الأمر ما يبعث على الحزن والإحباط؟