في اليوم التالي لفوزه في انتخابات بلدية طرابلس، قال اللواء أشرف ريفي في مؤتمر صحافي كلاماً يعكس معالم مرحلة جديدة.
«يدي ممدودة للجميع» قال ريفي.
هذه العبارة كانت موجّهة للرئيس سعد الحريري تحديداً، لكنّها بدت كأنّها صوت صارخ في البرية. استؤنف التصعيد على نار خافتة، وكانت حرب ناعمة إعلامياً، ولكن على جانب كبير من الشراسة من فريق تيار «المستقبل»، وصلت الى حدود غير مسبوقة، أمّا اللواء ريفي فكان صوته عالياً، وكانت معادلة الفعل والرد على الفعل، غيرَ واضحة للرأي العام، حتى الأمس القريب حين نقلَ الإعلام ما قاله ريفي عن الحريري، «بشكل مجتزَأ وغير مترابط وفوضوي»، فاستقرّت في أذهان الناس عبارة واحدة: الحريري انتهى.
في الواقع، لم يدخل اللواء ريفي العملَ السياسي بعد التقاعد إلّا مِن باب تأكيد استقلالية قراره، والتزامه بثوابت الرئيس رفيق الحريري، وقوى «14 آذار». هذا ليس سرّاً من الأسرار، بل أداء علني، يَعرفه الرئيس سعد الحريري، والرئيس فؤاد السنيورة، والسيّدة بهية الحريري. لم يُخفِ ريفي يوماً أنّه مستقل، قالها مراراً، ودخلَ الحكومة وزيراً للعدل على هذا الأساس، ولهذه القضية وقائع، تتجاوز بكثير ما يتّهمه به بعض «المستقبل»، المتّصل بالوفاء لمن وَزّره.
قرّر الرئيس الحريري الدخول بهذه الحكومة بعد اغتيال الوزير محمد شطح، لتكون حكومة ربط نزاع. تعرّضَ للانتقاد الشديد داخل طائفته، اختار لهذه الحكومة مشكوراً أسماء توحي بالتوازن، منها اسمُ اللواء ريفي، فأعطى هذا الاختيار اطمئناناً، ساهمَ ببدءِ عمل الحكومة، وإعادة ضخّ الثقة في الشارع السنّي.
كانت مشاركة ريفي مشروطة، بنَيل حقيبة الداخلية، فوضَع «حزب الله» فيتو على توَلّيه هذه الوزارة. إمتعَض ريفي من قبول الحريري فيتو «حزب الله» على وزير وحقيبة هي من حصّة «المستقبل» وحلفائه. إنتقلَ البحث لتولّي الحقيبة الأخرى. أراد «المستقبل» إسناد وزارة الشؤون الاجتماعية لريفي، لكنّه رفض.
لم ينَم الجميع الليلة التي سبَقت تشكيل الحكومة، كان ريفي في طرابلس. إتّصل به الحريري والسنيورة تباعاً لكي يقبل لكنّه رفض، وعند الصباح تمّ تعديل الحقائب، وتولّى وزارة العدل.
كان المغزى الأهم ممّا حصل أنّ وجود ريفي في الحكومة، شكّلَ ضرورةَ توازن، وأنّ الرجل لم يكن متلهّفاً للتوزير. كرّر الأمر عندما «رمى» استقالتَه ومشى.
عند بحثِ البيان الوزاري، تكرّرت مشكلة استقلالية القرار. رفضَ ريفي البند المتعلق بسلاح «حزب الله»، ومِن جديد اتّصل به الرئيس الحريري، والرئيس السنيورة، فلم يتراجع. من قصر بعبدا قال للرئيس الحريري عبر الهاتف: من البداية استقالتي في جيبي ولن أوافق على تشريع سلاح «حزب الله».
كان أشرف ريفي رأسَ حربة في الحكومة. زارَه في الأيام الأولى الحاج وفيق صفا بطلبٍ من العميد عماد عثمان. قال لـ»حزب الله» في تلك الزيارة ما يقوله في العلن: إنسحِبوا من سوريا وسَلّموا قتلةَ الرئيس الحريري، وعودوا إلى الدولة. بعد يومين سُرّب خبر الزيارة على أنّه مناسبة للتطبيع، فصحّح الأمر فوراً، ووضَعه في نصابه، غير أنّ مساراً آخر مع «حزب الله» كان قد تبنّاه وزراء مستقبليّون، أدّى فيما بعد إلى اختلال فاضح في التوازن.
لم يكن التواصل بين ريفي والحريري يومياً. لكنّه كان موجوداً. تأثّرت العلاقة بما حصل لكنّها لم تنكسر. جرّبَ ريفي ما تمنّاه الحريري بأن ينسّق مع بعض مساعديه. لم تكتمل التجربة، فقد وجد أنّ البعض منهم في وادٍ، وهو في وادٍ آخر. لاحقاً تبيّنَ أنّ بعض هؤلاء كان له الدور الأكبر في تسعير النار.
بكلّ واقعية يمكن القول إنّ الشرخ الكبير بدأ مع حدثين شبه متزامنين: ملفّ ميشال سماحة وترشيح النائب سليمان فرنجية.
في الملفّ الأوّل لا داعي لتكرار ما حصَل، وخصوصاً في اجتماع الرياض، فالخلاصة انتهت إلى أنّ الملف كاد أن يُختم بالإفراج عن سماحة، فحصَل التعارض. كان الحريري يعمل على تسوية تُجنّب طرح الملف على المجلس العدلي خوفاً من سقوط الحكومة، أمّا ريفي فقد علم لاحقاً أنّ ما اتّفق عليه في الرياض انتهى الى اتصالات قادَها الحريري مع الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط، لكن كان شيء قد انكسر، خصوصاً بعد تبَرّؤ الحريري من ريفي بعبارة: أشرف ريفي لا يمثّلني.
لاحقاً في مكاشفة بيت الوسط بعد مهرجان البيال، سألَ ريفي الحريري: لماذا لم تضعني في أجواء اتصالاتك مع برّي وجنبلاط في ملف سماحة.
أجاب الحريري: لأنّك كنتَ سترفض، فقال ريفي: على الأقلّ كنتَ ستعطيني هامشاً دون أن ألزمك بموقفي.
لم يَستسِغ ريفي حفلة تبنّي ترشيح فرنجية. كان واضحاً منذ البداية، عبر الهاتف مع الرئيس الحريري في اتصالين طويلين أو أكثر. لم يقتنع، لم يوافق.
ذهبَ فريق الرئيس الحريري إلى الرياض بطائرة واحدة، عشية ترشيح الدكتور جعجع للعماد عون. كانت الأجواء متوتّرة، لم يصدّق أحد أنّ جعجع سيذهب إلى البعيد.
حاولَ الحريري إقناع ريفي بجدوى ترشيح فرنجية، ولكن دون جدوى. كان ريفي يقول إنّ إيران تعطّل الانتخابات الرئاسية، ولن تقبل بهذا التنازل ولن يُنتخب فرنجية. تحدّثَ عن كرامة الطائفة السنّية، وكرامة فريق «14 آذار»، وعن انكسار وهزيمة ستَلحقان بالجميع جرّاء ترشيح فرنجية، فأجاب الحريري: كرامة الطائفة عندي. وبدا أنّ الافتراق الكبير حصَل.
بعد الاستقالة، بدأت فصول جديدة في حرب معلَنة. ذهِل اللواء ريفي من الدخول المباشر إلى أماكن لم يعتقد أنّ «المستقبل» سيصل إليها. في ملف ضابط أمن ريفي الرائد محمد الرفاعي، عرف ريفي من ألحّ على الوزير نهاد المشنوق إدخال اسم الرفاعي في ملف المازوت، لحِرمانه من الترقية.
قبلَ الانتخابات البلدية وصَلت إلى ريفي أصداء كلام ثقيل قيلَ في حقّه في بيت الوسط، أمام مطارنة ومشايخ. كلام وصَل إلى حد التوعّد بتحويله من لواء إلى ملازم وبتلقينِه درساً لن ينساه.
استُعمل النفوذ في الأجهزة الأمنية للتضييق عليه وعلى مؤيّديه. فُرِض حصار إعلاميّ عليه، وعوملَ كلّ من يتّصل به من السياسيين كأنّه عدوّ. في مهرجان طرابلس صَدر تحريم على النواب بالمشاركة، إعتذرَ وزير السياحة ميشال فرعون عن الحضور وإلقاء كلمة بسِحر ساحر. لم يكن غريباً أن يُطلب من فنّان في المهرجان أن لا يحضر، تلقّى اتّصالات، والتقى بوزير سيادي برفقة مستشاره، وطلبا منه عدمَ الحضور إلى طرابلس، ولم يكن الأمر خافياً، فقد قيل بالفم الملآن.
قد تبدو هذه الوقائع عبثية ومضحكة إلى حدّ الغرابة لكن هذا ما حصل، والمُحزن أنّ فرَصاً حقيقية لاحت في أكثر مِن مرّة لإعادة وصلِ ما انقطع، لكنّها لم تُستغلّ، لا بل ذهبَت الأمور إلى الأسوأ.
لم يمانع ريفي قبل الانتخابات البلدية بالتحالف مع تيار «المستقبل»، لا بل أرسَل إشارات إيجابية، لكنّ الجواب كان التحالف مع الرئيس ميقاتي والوزير فيصل كرامي والآخرين.
لم يتردّد ريفي في القول للرئيس سعد الحريري بعد الانتخابات: يدي ممدودة، لكنّ الجواب أتى، ومِن طرابلس، بدعوته لكي «يحلّ» عن رفيق الحريري.
قال بعد الانتخابات البلدية لستُ زعيماً في طائفة أو على طائفة، كان هذا الكلام يُفترض أن يكون كافياً لإقناع من يجب أن يقتنع بأنّ ريفي لا يسابق إلى سرقة السراي، ولكن دون نتيجة.
في دردشة مع إعلاميين في الليلة الأولى لمهرجان طرابلس، تحدّثَ ريفي طويلاً، وردَت على لسانه مقاطع ممّا نُشِر ووُضِعت في سياق مختلف.
إنتهى في تلك الليلة أملٌ بإمكان ترميم ما تبَقّى من جسور. إعتبَر ريفي أنّ تفرّغَ فريق بأكمله لإفشال مهرجان طرابلس، يشكّل نهاية أشياء كثيرة، وقيَمٍ ما كان يجب تُمسّ، وولادةَ نماذج صبيانية في العمل السياسي. أحدُهم روى على مسمعِه اقتراحاً ساخراً، بتكليف أحد مساعديه إقناع نانسي عجرم بمقاطعة مهرجان صيدا. إبتسَم بألم.
كلّ البناء الذي أقيمَ على عبارة «الحريري انتهى» والذي شاركَ فيه نوّاب وإعلاميّون وناشطون، كان استثماراً سياسياً مفهوماً، لكنّ هذا البناء المتداعي الذي بُني على اتّهام من وضَع نفسَه في وجه العاصفة، منذ العام 2005 وإلى اليوم، في موقع الشريك لـ»حزب الله»، يؤكّد أنّهم لم وربّما لن يستوعبوا ما عبّرَت عنه طرابلس في استفتاء الانتخابات البلدية. لقد انتخبَت طرابلس من شعرَت بأنّه القادر على الوقوف بوجه مشروع «حزب الله».
هذا البناء شُيّد على مظلومية مستحدثة وعلى وحدة صفٍّ سبقَ أن اهتزّت بفِعل الخيارات الخاطئة للغيارى الجُدد.
ها هو أشرف ريفي اليوم يتجاوز كلّ تعرّضٍ له، من أجل الوحدة ورفضاً للتشرذم، ويقول: عودوا إلى الثوابت وتخلّوا عن الخيارات والتحالفات الخاطئة، ويدي ممدودة.