من الشعارات اللافتة في معركة طرابلس، تشبيه اللواء أشرف ريفي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لكنّ الأكثر دقّة هو تشبيه انطلاق «الجنرال ريفي» بانطلاق «الجنرال عون» عام 1988، على رغم اختلافهما في الكثير. فما يجمع الرجلان هو أنهما يأتيان من مدارس الأمن والعسكر وأنهما استفادا من أخطاء السياسيين وخطاياهم للصعود.
قبل أن يتوصّل الرئيسان نجيب ميقاتي وسعد الحريري إلى تشكيل اللائحة الائتلافية، كان العالمون بالمزاج الشعبي في طرابلس يقولون: إذا شهدت الانتخابات معركة بين لائحتين ميقاتية وحريرية، فإنّ كلاً منهما سيحطِّم الآخر، وسيفوز اللواء أشرف ريفي ببلدية طرابلس.
لم يُصدّق البعض، من فريق ميقاتي وفريق الحريري، أنّ ريفي قادر على تحقيق معجزة بهذا الحجم. ولذلك، بقيَ ميقاتي يدرس حتى اللحظة الأخيرة إذا كان «المستقبل» سيشكّل «تقّالة» في اللائحة الائتلافية أم قوة دفع إضافية. أما الحريري فكان ميّالاً إلى لائحة طرابلسية شبه جامعة تتكفّل بهزيمة ريفي.
خيار الائتلاف تغلَّب في النهاية. وكان في اقتناع الجميع أنّ المعركة باتت محسومة لمصلحة «اللائحة الكبرى». وحتى ريفي كان يتوقّع، في أفضل الأحوال، في مقابل ماكينات المال والسياسة والخدمات، أن يحقّق خرقاً معيّناً يمنح المعركة طابعاً رمزياً اعتراضياً، أي طابع تسجيل الموقف. وهذا يكفي. ولكنّ المفاجأة حصلت. وليس خصوم ريفي وحدهم أصيبوا بالصدمة، بل هو نفسه أيضاً.
ذوو المعلومات، في أرض المعركة، يحدِّدون 4 عوامل ميدانية مباشرة ساهمت في انتصار ريفي:
1 – أنّ التحالف البلدي الذي نشأ بين ميقاتي والحريري، تأخّر كثيراً، ولم يجرِ التحضير له شعبياً وسياسياً. وظهرَ وكأنه مجرد التقاء مصالح فوقيّ بين أركان الطبقة السياسية المسؤولة عن أزمات طرابلس، هدفه تكريس نفوذها. وهذا التحالف لم يقنع غالبية الناخبين، وقد استثمره ريفي في الصناديق.
2 – ينظر بعض الشارع السنّي في طرابلس إلى ميقاتي باعتباره أوّل المسؤولين عن ملف الموقوفين الإسلاميين. فأزمتهم بدأت في عهده. والإسلاميون هم أحد العناوين في معركة ريفي السياسية.
3 – يتردّد في بعض الأوساط الطرابلسية أنّ ميقاتي مسؤول عن حرمان المدينة 150 مليار ليرة كان يُفترَض تحويلها إليها، في عهده، بسب خلافه مع وزير المال محمد الصفدي.
4 – كان لعامل الفقر المدقع في أحياء طرابلس الشعبية، ولاسيما في باب التبانة- التلّ، دور مهم في حصول التزاوج ما بين الفقر باعتباره عامل شحنٍ اجتماعي والعصبية المذهبية السنّية التي نمت متزامنة مع الحرب في سوريا.
لكنّ هذه العوامل ليست سوى الغطاء السطحي لما هو أعمق بكثير. فمن الخطأ تحليل الانتخابات البلدية في طرابلس بوصفها ظاهرة معزولة. والموضوعية تقتضي البحث في التحوّلات الاجتماعية الواضحة التي أظهرتها الانتخابات في جولاتها الأربع، وعلى المستوى اللبناني الشامل، أي في ما يتعلق بالسنّة كما المسيحيين والشيعة والدروز. وتحليل هذه التحوّلات لا يجوز النظر إليه من زاوية سياسية فحسب، بل أيضاً وأساساً من زاوية علم الاجتماع.
واضح أنّ السنّة في لبنان يتغيَّرون، كما الآخرون جميعاً:
– في عكار أيضاً، فاز النائب خالد الضاهر على «المستقبل» في أكبر بلدة سنّية هي ببنين (21 عضواً)، على رغم أنّ الضاهر المعروف بحدة مواقفه ضدّ «حزب الله» يتبنّى ترشيح العماد ميشال عون، حليف «الحزب» لرئاسة الجمهورية.
– في الضنية أيضاً، خسر «المستقبل» المعركة في أكبر بلدتين هما بخعون وسير الضنية في وجه النائب السابق جهاد الصمد، على رغم أنّ الرجل معروف بانتمائه إلى الخط القريب من دمشق.
– وقبل 3 أسابيع، في بيروت، لم تتمكّن اللائحة التي يدعمها الرئيس سعد الحريري، بغطاء الحلفاء والخصوم، من تحقيق الاكتساح الشعبي المنتظر. فنسبة الاقتراع الضعيفة تعني أنّ الناس لم يستجيبوا للنداءات السياسية. كما أنّ النسبة الصادمة من الأصوات التي حازتها لائحة «بيروت مدينتي» أكّدت الصورة.
– وأما في صيدا، بيت الحريري، فالمعركة بقيت حريرية الطابع لاعتبارات محض محلّية، بقيادة الثنائي النائبة بهية الحريري والرئيس فؤاد السنيورة.
ومن خلال هذه الصورة الشاملة يمكن الاستنتاج أنّ الواقع السنّي يعود، ولو تدريجاً وجزئياً، إلى ما كان عليه قبل ظاهرة الرئيس رفيق الحريري في مطلع التسعينات من القرن الفائت. فالسنّة في لبنان لم تكن لهم في أيّ يوم، منذ الاستقلال، زعامة شاملة على المستوى الوطني، إلى أن حقّق الحريري هذا الهدف.
قبل ذلك، كانت الزعامات السنّية عبارة عن بيوتات تقليدية في المدن، كآل كرامي في طرابلس، وآل الصلح في صيدا، وآل اليافي وآل الداعوق وسواهم في بيروت. وكان هذا الواقع ينطبق أيضاً على الشيعة قبل مجيء الإمام السيد موسى الصدر. ووحده الحريري أنجَز الزعامة السنّية الشاملة وطنياً.
وعندما عاد الرئيس سعد الحريري إلى لبنان، قبل أشهر، كان هدفه الأساسي الحفاظ على هذا الإنجاز. فابتعاده عن الساحة لسنوات أضعف عصبية «المستقبل» كثيراً وأتاح بروز تنافرات في داخله. لكنّ الانتخابات البلدية أظهرت أنّ مهمة الحريري لم تعد سهلة.
والمثير أنّ الذين «يَنبتون» فروعاً في شجرة الحريرية السياسية ينتمون إلى اتجاهات متناقضة. فبعضهم على يمينها وبعضهم على يسارها. أي إنّ بعضهم يريد من الحريري أن يكون أكثر انفتاحاً على «حزب الله» ومحور الأسد، والبعض الآخر يريده أن يكون أكثر حزماً في مواجهة «الحزب» والأسد، ومنهم اللواء ريفي.
ومن المؤكد أنّ «الحزب» هو أكثر المستفيدين من بروز الوقائع الجديدة في البيئة السياسية السنّية. فهو طبعاً لا يدعم ريفي، لكنه مرتاح إلى ما فعله هذا الرجل بالزعامة الحريرية في طرابلس، وما فعلته القوى السياسية المحلية في عكار والضنية، وما فعله المجتمع المدني في بيروت. أما في صيدا فالحريرية تبقى بوصفها زعامة عائلية محلّية. وعلى الأقل، بات «الحزب» يضمن أنّ أيّاً من القوى السنّية النابتة ليس مهيّأ لتزعّم السنّة في كلّ لبنان.
وسيكون الحريري في المرحلة المقبلة أقلّ حدّة في الاعتراض على النسبية. والغرام القديم بقانون العام 1960 من المؤكد أنه انتهى. ففي ظلِّه ستأتي النتائج سلبية في طرابلس وبيروت وسواهما، ولن يبقى لـ»المستقبل» سوى جزء صغير من الكتلة القائمة حالياً. فالنسبية التي يرفضها الحريري ربما صارت قارب نجاة له.
ولكن، ما هي خطوات ريفي الآتية؟
يعتقد البعض أنّ الرجل أمسَك بطرابلس، المدينة التي صنعت زعامة الرئيس سعد الحريري بعد اغتيال والده. فمن المليون ونصف المليون الذين نزلوا إلى الشارع في 14 آذار 2005، هناك نصف المليون جاؤوا من طرابلس وجوارها. وهذا الأمر له رمزيته.
في منطق المصلحة السياسية، يستطيع ريفي أن يبني على رصيد الانتخابات في طرابلس ليفرض موقعاً قوياً. وثمّة مَن يقول إنّ ريفي سيبقى في طرابلس متقدِّماً بين متساوين، وستبقى اللعبة السنّية مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
في الخلاصة السياسية الكبرى، هناك شيء ما يتغيَّر في لبنان، وهو جدير بالتفكير العميق: إنها أزمة نظام. والخروج منها يقتضي إعادة إنتاج السلطة من خلال قانون انتخاب مبني على العِلم لا على المصالح. وهذا القانون يفتح الباب لإنهاء الجزر المستقلّة القائمة في داخل الطوائف على مدى الـ10452 كيلومتراً مربعاً، حيث الرؤوس الحامية تأكل الرؤوس الباردة!