«إذا أردتَ أن تعرف مقدارَ تقدّم أيّ أمة من الأمم ومدى حضارتها ورقيّها، فانظر إلى قضائها وقوانينها…» قول مأثور يصحّ لكلّ زمان ومكان، فكيف بالأحرى في زمن تعاظمت فيه الجريمة وتنامى فيه الارهاب فأصبحت الحاجة ملحّة لاستحداث قوانين تُحاكي العصر وتحدّ من خطورة الجريمة وتؤمّن في الوقت عينه الحقّ في محاكمة عادلة لكلّ إنسان، تبدأ مع محكمة مستقلّة ونزيهة وقضاة متخصّصين ولا تنتهي مع مراعاة المعايير الدَولية لعدالة منشودة.
وإن يكن لبنان قد انضمّ الى العديد من المعاهدات والاتفاقات والمواثيق الدولية التي ترعى حقوق الإنسان وتضمن الحقّ في محاكمة عادلة أمام محاكم مستقلّة متخصّصة ونزيهة، إلّا أنّ الالتزام بتطبيق هذه المعاهدات دونه موانع وعقبات عدّة، تتجلّى في أبرز وجوهها في المحاكم الاستثنائية، خصوصاً في العسكرية والمجلس العدلي اللذين يمثّلان انتهاكاً صارخاً للمبادئ التي تصون الحقّ بمحاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة وعلى درجات عدة، أما القوانين التي تنظّم هذه المحاكم فهي مخالفة للدستور ولاسيما لمبدأي الاستقلالية والحيادية في إصدارها للأحكام وفي احترام حقوق الدفاع.
وأمام نتائج التقارير والدراسات التي تُرفع دَورياً الى المنظمات والمؤسسات الدولية حول واقع القضاء اللبناني خصوصاً لناحية عمل المحاكم الاستثنائية التي تفتقد الى الحياد والاستقلالية والتخصّص، وامام المطالبات الدولية الحثيثة والمستمرّة بتحديث القوانين وإلغاء المحاكم الاستثنائية التي هي ظاهرة غريبة عن الأنظمة الديموقراطية، يأتي مشروع القانون الذي أطلقه وزير العدل اللواء اشرف ريفي، والذي يرمي الى إنشاء أجهزة متخصّصة بقضايا الارهاب والجرائم الكبرى، لينقذ المتقاضين من براثن المحاكم الاستثنائية وأحكامها العشوائية ويؤمّن نقلة نوعية في تاريخ القضاء اللبناني ويضع العدالة اللبنانيّة في تناغم تامّ مع العدالة الدولية وشرعة حقوق الإنسان.
أهميّة مشروع القانون هذا، أنه يضع تعريفاً جديداً ومتكاملاً للجريمة الإرهابية، ويعتمد مفهوم المحاكم المتخصّصة بدلاً من المحاكم الإستثنائية، ويحصر صلاحيات القضاء العسكري بمحاكمة العسكريين فقط، ويلغي المجلس العدلي بسبب المحاكمة على درجة واحدة ويُكرّس مبادئ المحاكمة العادلة وفق المعايير الدولية «لا سيما حقّ التقاضي على درجتين».
إنّ مشروع القانون الذي يرمي الى إنشاء أجهزة متخصّصة بقضايا الارهاب والجرائم الكبرى ليس وليد الصدفة، بل كان ثمرة عمل دؤوب ودراسات كثيرة وحثيثة، واجتماعات يفوق عددها الثلاثين ترأسها وزير العدل مع فريق متخصّص من القضاة، وأبرزهم القضاة بركان سعد أحمد الأيوبي وجاد الهاشم ومستشارو الوزير القاضي محمد صعب والعميد روبير جبور، هذا الفريق بقي يعمل كخلية نحل لمدة اكثر من ستة اشهر الى أن أنهى درس وصياغة مشروع قانون وفق المعايير الدولية لمفهوم العدالة وحقوق الانسان.
فور الاعلان عن القانون المنتظر، تردّدت أصداؤه في قاعات المحاكم وبين المحامين الذين تلقّفوه بكثير من الأمل، وأبدى البعض منهم استعداده لتشكيل نواة مؤلفة من فريق من المحامين هدفه المطالبة بوضع القانون موضع التنفيذ.
كذلك أبدت الدوائر الديبلوماسية والعديد من المنظمات الدَولية اهتماماً لافتاً بمشروع القانون وطلبت نسخة مفصّلة عنه لمتابعته. كما اعتبر أحد سفراء الدول الكبرى أنّ المشروع يُعَدّ نقلة نوعية في تاريخ القضاء اللبناني نحو الحداثة.
مهمّة ريفي لم تنتهِ، فالمرحلة الثانية من مشروعه ستشهد ندوات في الجامعات وكليات الحقوق، هدفها تعريف الطلاب أكثر على هذا المشروع ووضعه بين أيديهم.
العبرة في التنفيذ، والكرة في ملعب المجلس النيابي ومجلس الوزراء، إذ يضعهم هذا القانون امام امتحان حول مدى تمسّكهم بالحريات وصونهم لحقوق الانسان والمحاكمات العادلة.
فإذا كانت حضارات الامم ورقيّها تُقاس بمدى تطوّر قوانينها ومراعاتها لحقوق الانسان وكرامته المكرّسة والمُصانة في الدساتير، فإنّ تطبيق هذا القانون من شأنه أن يضع لبنان في مصاف الدول الحضارية والمتقدِّمة جدّاً، إنها فرصة تاريخية لكي لا يظلّ توقيع لبنان المعاهدات الدولية التي تكفل حقوق الانسان وحريته… حبراً على ورق.