ينتشر التشاؤم. نحن في حالة جديدة لا نعرفها لأننا لم نتعود عليها. تعودنا على تلقي تاريخنا الماضي بتكرار لا ينتج فكرة جديدة. وما تعلمناه من أفكار الغير، حول العالم، لم نفهمه. نجهل ونعتز بالجهل، ثم نقول إن ما يحدث هو عقاب لنا على جهلنا. نحتاج، اذن، الى رعاية، فالاستعمار كان رعاية. لم يفعل من جاؤوا بعد الاستعمار شيئاً. وما نشاهده من العمران هو من صنع الاستعمار. لم نفعل شيئاً لأننا غير مستعدين بعد لنفعل. لا نستحق الاستقلال الذي أُنعم به علينا. نحن قاصرون. هكذا يفكر معظمنا.
نزلت الجموع الى الميدان منذ بضع سنوات. كان الأمر زلزالا، تغيرت بعده معالم الأرض. تغيرت السياسة، فلم تعد هي السياسة كما كنا نعرفها، تغير المجتمع فلم يعد هو المجتمع الذي كنا نعرفه. اختلفنا حول تعريف الزلزال، منا من قال إنه ثورة، ومنا من أنكر ذلك، وكانت الحجج والبراهين تدور حول أهلية هذه الجموع لإغداق تعبير الثورة عليها بينما هي لا تملك برنامجاً. أريد للزلزال خطة مسبقة، فكأن الزلازل لا تصنعها تطورات معقدة يصعب فهمها ووضعها في معادلات رياضية أو غير رياضية، وكأن الزلازل تنتظر «عقلنا» كي يستوعبها في معادلة أو خطة مسبقة.
نريد خطة مسبقة للزلزال العربي (الثورة؟)، ونحن في لبنان نعرف بالتجربة ان أصحاب الأمر رفضوا في كل مرة مناقشة أي خطة تقدم لهم حول أي قطاع. هذا بينما ينادي الجميع عند كل مصيبة، من فيضان مجرور أو انقطاع كهرباء، بأن تفعل الدولة شيئاً. لا تدير الدولة الاقتصاد، ولا شأن لها بالسياسة، لم يُنتخب رئيس جمهورية لأن الخارج لم يقرر بعد، أو التسوية الخارجية «لم تنضج» بعد. لا يختلف لبنان عن غيره من بلداننا. حدثت عندنا حرب أهلية. ما تم اعماره نرفضه. وهناك عشرات المشاريع المنتهية ولم توضع قيد العمل. لم ينقصنا تمويل، ولا ينقصنا الآن. غير لبنان من البلدان لا ينقصها تمويل. الفائض عند الجميع هو الجهل أو التجاهل. من يعرف لا يعمل، أو لا يُسمح له بالعمل، ومن يعمل لا يُسمح له بالمعرفة.
تمارس مجتمعاتنا عنفاً غير مسبوق. العنف معظمه داخلي، الداخل ضد الداخل، وبعضه ذو أسباب دينية أو طائفية، والأمر سيان. الدين لا يتخلخل. أُبلغنا انه أكتمل منذ خطبة الوداع. المجتمع يتخلخل. عندما يحدث الزلزال يتبعه خراب كثير ودمار كبير. يعاد ترتيب الأرض تبعاً لذلك. هل ما يعاد ترتيبه هو السلطة فقط أم هو الضمير الفردي؟ هل يتخلص الفرد من سلطة سياسية، يؤتى بعدها بما هو أسوأ منها؟ أم أن ما يتغير هو الضمير الفردي الذي بات يرفض كل سلطة سواء كانت دينية أم ثقافية أم سياسية؟ هل ما يحدث هو على السطح فقط أم هو في الأعماق؟ قيل إن الإنسان عميق الغور. والأغوار مجهولة، لأنها معتمة مظلمة، وكل معتم يوحي بالجهل بل يتطلبه. تكون العتمة أحياناً مفتعلة، كي يصير الجهل مطلباً.
علمت شيئاً وغابت عنك أشياء. ما نجهل أكثر بكثير مما نعرف. ما نعرفه هو فقط من يتولى السلطة في هذا البلد أو ذاك، أو من هو محتمل لتولي السلطة. أما هذا الفرد وهذه الجموع التي احتلت «الميدان» في وقت ما وشاءت بذلك ان تبلغنا رسالة ليست فقط عن السلطة بل عما يدور في الأعماق، فقد رفضنا تلقي الرسالة بالجهل والتجاهل. تُغلف هذه الجموع ذواتها بحاجب من الشعارات الدينية كي تعبر عن شيء نرفض التعرف إليه. نتحدث عن الفقر والبطالة والهجرة والتهميش ولا نستطيع ان نربط هذه الأشياء بالرموز التي تطرح، نكتفي بالقول ان هذه الرموز ليست من تاريخنا وليست من الدين والثقافة كما تعودنا عليهما. لا نريد ان نعرف إلا ما تعودنا عليه، أو ما يرمى به إلينا من الخارج.
تكسرت النصال على النصال. كثرت السهام الموجهة علينا. منطقة كانت عبر التاريخ مجال الوصل في العالم، صارت الآن مهمشة، ومُدانة بأنها مركز الإرهاب العالمي، تصدِّر الإرهاب إلى العالم. ما في باطن الأرض لا تستطيع استخدامه، بالأحرى يستخدمه الغير ضدها. وما تنتجه بقوة عملها على سطح الأرض غير متاح. أليست البطالة هي السمة البارزة لعصرنا الحديث في هذه المنطقة؟ تستجير الجموع بالغيب وقد أصابه الجفاف كالصحراء. والصحراء في كثير منها ليست معطى طبيعياً، بل هي مصطنعة. ليست كل الصحراء غير صالحة للزراعة بل هي ما لا يزرع من الأرض.
منطقة صارت عبئاً على العالم، وصار ماضيها عبئاً عليها. تهمشت وهي لا تريد ذلك. تهمش ما بداخلها، صارت الروح جفافاً. تعودنا من ملاحظة تعاقب الفصول ان نرى شيئاً جديداً ينبت بعد ان يتلاشى اليباس في الأرض. ما هو هذا الجديد؟ لا نعرف. نجهل.
ربما كان من حسن حظ هذه المنطقة انها تحولت إلى ممارسة محضة. ماتت كل النظريات والايديولوجيات والروحانيات المألوفة. نحتاج إلى أدوات معرفية جديدة، وهي غير متوفرة لدينا. تبدأ المعرفة بتحديد مجال البحث. هذا المجال هو فقط الضمير الفردي، ما يحدث في غور المجتمع. هذا هو المجهول ربما كان الأفضل ان يبقى مجهولاً كي لا نفسده بأفكارنا ونظرياتنا الموات.