Site icon IMLebanon

قضايا محقّة خاسرة

سارت قبل ايام تظاهرة في بيروت احتجاجاً على العنف الممارس على النساء بعد تصاعد جرائم القتل التي يرتكبها الرجال بحق زوجاتهم. جمعت التظاهرة بضعة آلاف من الناشطين واعتبرت ناجحة بالمعايير اللبنانية المتواضعة في مثل هذه الحالات التي يتحرك فيها المجتمع المدني وحيداً.

عدالة القضية التي حملت الهئيات والأفراد المشاركين في تظاهرة الاعتراض على العنف ضد النساء لا تخفي ان ثمة قضايا لا تقل عدالة وأهمية يعاني منها اللبنانيون ويواجهونها لكنها لا تجد من يساندها حتى بتضامن اعلامي. وعلى رغم ان التظاهرة التي كانت أكثرية المشاركين فيها من النساء قد لا تجد ما يعززها لناحية تفعيل قانون تجريم العنف الأسري في لبنان الصادر قبل اكثر من عام والذي سجلت الهيئات النسائية اعتراضها على عدد من مواده، إلا ان النجاح النسبي للتظاهرة يدعو الى تأمل في فشل تحركات مشابهة.

يمكن في هذا السياق الحديث عن التغييرات الكبيرة التي تتعرض لها العاصمة من النواحي العمرانية، خصوصاً مشاريع البناء على الواجهة البحرية او ما يعرف بـ «ميناء الدالية» والرملة البيضاء. يحيط بهذين المشروعين الكثير من التساؤلات خصوصاً لانتزاعهما القليل الباقي من الواجهة البحرية لبيروت بذريعة ملكية الارض من قبل أفراد يحق لهم التصرف بها رغم وقوعها بمحاذاة البحر مباشرة. ويفاقم المشروعان حالة الاختناق التي تعاني منها العاصمة اللبنانية المفتقرة اصلاً الى المساحات الخضراء والاماكن العامة.

المأسوي في المسألة ان الغالبية العظمى من الاعتراضات المحقة على المشروعين حملت خلفيات سياسية من معارضي مالكي الارض الذين «صودف» انهم ينتمون الى تيار «المستقبل». سكان بيروت الذين يرى قسم مهم منهم اضرار المشروعين على حياتهم وعلى ما تبقى من اماكن ترفيه في المدينة الاسمنتية، يلزمون عموماً الصمت بسبب حالة الاستقطاب السياسي والطائفي الشديد الممسك بخناق البلاد. الاعتراض على المشروعين يعني صب الماء في طاحونة خصوم «المستقبل»، الممثل الأكبر للسنّة (وهؤلاء كثر بين ابناء بيروت). ومن ناحية ثانية، ينهض السؤال عن أثر الهجرة الجماعية السنّية من بيروت الى بلدات قريبة مثل عرمون وبشامون وخلدة، بعد اشتداد ضيق ذات اليد على اهالي العاصمة السابقة.

الظاهرة الثانية، غير المدروسة جيداً حتى الآن، تساهم في قطع ارتباط تاركي بيروت بحياتها اليومية وأماكنها العامة وقدرتها على توفير حد معقول من ضرورات الحياة في المدن الكبيرة، وتحصر ارتباط ابناء بيروت السابقين بمدينتهم بيوم الانتخاب الذي ينزلون فيه الى العاصمة للاقتراع لزعيم الطائفة. تماماً كما يفعل سكان بيروت الذين ما زالت سجلات قيدهم في المناطق البعيدة من العاصمة. فتبدو المدينة وقد فقدت سكانها السابقين الذين لم يعودوا يهتمون جدياً بأماكنهم المعرضة للمحو والدمار، ولم تحصل على الاهتمام الكافي من السكان الجدد غير المرتبطين بها والذين يشعرون بغربة عنها لعدم استطاعتهم المشاركة في تقرير سياساتها واخيتار ممثليهم فيها.

قضايا كهذه تتكرر في العديد من المناطق اللبنانية اذ تتعرض مشاعات القرى الى عمليات نهب ومصادرة منظمة من نافذين مختلفي المشارب والولاءات، وتُدمر بقايا الغابات والاحراش تحت أعين التحالف السياسي النافذ في المناطق المنهوبة. كل ذلك بذريعة ان الصراع السياسي يحتل الأولوية راهناً وأن هذه مسائل مؤجل النظر فيها.

ذات يوم سيصحو اللبنانيون ويجدون ان مدنهم ليست سوى محافظ استثمارية عند مالكين متغيبين. وسيكون الوقت قد فات طبعاً.