ليس اختناقاً مرورياً انسحب على اختناق العالقين على الطرق ومداخل العاصمة ما جرى أمس، بقدر كونه اختناق بلد بعادات ميليشيوية مكتسبة من زمن الحرب، والأخيرة ما عادت تليق به. فأن يسأل طفل عالق في باص مدرسته لساعات: لماذا الطريق طويل على غير عادته؟ ولماذا تسد قوافل الشاحنات الطرق؟ ولماذا الصراخ من حوله؟ ولماذا يعتدي الشباب على السيارات وعلى باصه؟ ولماذا يضربون ويكسرون الزجاج ويتفوهون بالعبارات النابية؟ ولماذا يرتجف رفاقه من الخوف ومن الانتظار ومن الحرارة المرتفعة ومن الآتي الذي يذكّره بافتراءات لاعب في الحروب الإلكترونية ؟ ولماذا يغنّي الكبار من حوله: «هيدا بلد..لأ مش بلد»؟.
وإن كان الطفل لا يفقه شيئاً عن خلفيات المرامل والكسارات والاعتصام وحسابات الربح والخسارة، فإنه دخل على خط الأزمة حاسماً: «عيب يا عمّو تقطعوا الطريق»، لكنّ العيب الذي يراه الطفل عيباً، يراه الآخرون حقاً يجب أن يُكتسب بلغة الشارع وبممارسات «قطّاع الطرق» الذين يسعون للرجوع بالبلد الى الوراء لسنوات، أيام كانت الطرق «حارة كل مين إيدو إلو»، فبالأمس نزل سائقو الشاحنات للشكوى من قرارات تمسّ جيوبهم وأحوالهم الاقتصادية، واليوم ينزل معتصمون جدد، من دون أن يفوتهم توجيه الاعتذار سلفاً «لكل إزعاج سيحصل من جراء التجمعات»، وهو الاعتذار الموجّه سلفاً أيضاً للطوابير الممتدة من مداخل بيروت رجوعاً إلى الأرياف التي يقيم فيها العدد الأكبر من الموظفين والعاملين الذين يراهنون على قوتهم اليومي، وفيهم المُسنّ والمريض والباحث عن رزقه والعامل وسائق الاجرة، والاخير عالق في حسابات سائقين أكبر منه، وفي قهر يومي يبدأ من الأعباء المنزلية ويتصل بزحمات السير ولا ينتهي بأحوال البلد المتأرجحة بين الاستعدادات والاقلاع، وعالق أيضاً في سجن كبير فيه مئات السيارات والعائلات التي إن اختارت الرد على التحرك باعتصام مقابل لا يبقى بلد ولا حوار ولا أشغال.
ولأنه في الأساس لبنان «بلد» وليس مجموعات من «قطّاع الطرق»، لا تؤخذ الحقوق في الشارع أو بممارسات تمزيق أوصاله، وإنما بالوصل الذي يبدأ من الحوار ويأخذ الى حسابات الواحد زائد واحد يساوي إثنين والواحد ناقص واحد يساوي الفراغ، وفي الحالات مجتمعة وحده المواطن يدفع الأثمان، ولسان حاله يسأل: هل بالبلطجة تحصّل الحقوق؟ وما ذنب الشعب الكادح؟ وهل تكون الرسائل السياسية ملغومة بخبز الكادحين ومطالب تحتدم فجأة، أو أنها تنام في مستوعبات الدواليب القابلة للاشتعال؟ ومن يعوّض لمن يجني قوته اليومي بالساعة؟
هي ورقة الشارع إذاً، يصرفها اللبناني قهراً وإذلالاً وسجناً لساعات طويلة، وهو المطلب المقصود من أجل حمله على الكفر بعهد يفهم لغة الدولة ولا يفقه محاولات الابتزاز والضغط والتفلت من القوانين والاستقواء، وهو زمن انقضى الى غير رجعة طالما أن لا أحد فوق سلطة الدولة ولا أعلى منها.