تصدَّرت الصفحة الأولى من عدد يوم الاثنين 27/6/2016 من «الشرق الأوسط»، صورة تبعث الرّعب في أوصال الآدميّين والحيوانات الأليفة والمستألفة، تُمَثِّلُ رجلاً استسلمت عيناه لليأس، أطبَقت على عنقه ذراع متوحّشة، فيما غزَّت اليد الأخرى في نحره سكيناً لجزارة المواشي، أما البطل المغوار فملثَّمٌ لم تظهر منه سوى عينين من جمر وحقد وتلذّد، لأنه سيستمتع بعد لحظات بتدفق الأحمر من الوريد وربما لعق بعضاً منه، تَلَمُّظاً، وقربى من أمير المؤمنين المزعوم.
وفي فجر الإثنين ذاته، وفي ليله ايضاً، انتشر قطيعان من الانتحاريين بين الأبرياء وجنود الجيش الأبطال، ليزرعوا الهول والفتنة في قاع لبنان، تلك القرية التي براها الله لتكون مرتعاً للغزلان كما قال أمير الشعراء شوقي «ريم على القاع بين البان والعلم»، فمَن أحلَّ سفك دمنا في تلك البقاع، وكيف لنا أن نكتفي بالاستنكار وانتظار المصير، فيما لا زالت الأزِمَّة في يدنا، والارادة طوع الجنان والبنان، ولا ينقصنا إلّا إعمال العقل وثبات القلب واستطلاع البصيرة عما يحيق بنا ويُحاك لنا؛ ما أهون أن نردّ على تلك الطائفة المتوحشة باستنفار حساسيات الطوائف وإثارة غرائزها، عندها نكون قد ذهبنا الى فخ الإرهابيّين بأرجلنا، لأنّ هدفهم الأصلي ليس استهداف عشرات الضحايا- مع مَسَرَّتِهم بذلك- بل هم يرمون إلى تمزيق الوحدة
المجتمعية والوطنية ليسهل عليهم إقامة إمارات موهومة، بَلَوْنا نموذجاً مخفّفاً عنها، وقد اذاقتنا المرَّ وأورثت في النفوس آلاماً لما تزل ندوبها تحزَّ فينا.
اللافت فيما حدث في القاع، وهي تلفظ هكذا أيّ بتفخيم القاف، والقاع ذات فخامة في قلوب اللبنانيين وفي بقاعهم الخصيب، أنّ ثمانية انتحاريين اسُتقْدِمُوا من أماكن بعيدة في سوريا ليزهقوا أرواح شهداء خمسة على أمل أن تَدُقّ أجراس جنائزهم في أغوار الصدور، وأن يلتفت أهل المصاب الى أعداء افتراضيّين يصبّون جام غضبهم عليهم، وهم الأبرياء، فإذا بالقاعيّين، يدفنون شهداءهم بما يليق بهم، ويئدون أيضاً تلك الفتنة بما أْبدَوْهُ من خطاب وطني راقٍ ذكَّرني بخطاب مختار فنيدق والد شهيد الجيش والوطن محمد السيد، إذ أسَّسَّ بكلماته البسيطة والعفوية للغة وطنية أبلغ من الجرح، لا ينبغي لنا أن نهجر أيَّ حرف منها أو نقطة وفاصلة.
وربما كان هناك مَن يرى أنّ حملة كراهية ضد اللاجئين السوريين تشفي غليلاً وتفُشُّ غيظاً، فلا بد من التأكيد إذاً، أنه حتى اللحظة، لا يجد الإرهابيون المتوحشون في النزوح السوري أرضاً صالحة أو مادة متفجرة، فحذارِ من أن ننزلق الى هذا المهوى، كمَن يُسِهِّلُ لِعَدوِّه مهمته، ويحرث له حقلاً ما زال عصيّاً على بذاره الشيطاني، ويُقَصِّرُ له المسافات.
كنت أعددت مقالاً للفرح، فغلب علينا الحزن، ولكنني لن أترك الفرصة من غير أن أنوِّه بحب الحياة الذي أدمنه اللبنانيون وقد تجلّى هذا يومَي 24 و25 من الشهر الفائت باحتفالات (بحر رمضان، على جزيرة عبد الوهاب في ميناء طرابلس) والتي نَظَمَتْها الـ .U.N.D.P مع وزارة الشؤون، وقد أحيتها موسيقى الجيش وكورال الفيحاء ودراويش المولوية ومسرح الدمى والجمعيات النسائية العكارية التطوّعية التي أعدَّت سحوراً لأكثر من عشرين ألف شخص توافدوا على المكان على مدى ليلتين لم يحدث فيهما ما يُعَكِّر صفو الفرح.
لن نهزم ضباع الموت، إلّا بوهج الفرح.