عرّت استقالة الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا «إسكوا» الدكتورة ريما خلف، من منصبها، «الأمم المتحدة»، وانحيازها لصالح الكيان الإسرائيلي العنصري.
الاستقالة التي أحدثت دوياً صارخاً، أثبتت مضمون التقرير الذي أعلنت عنه، ووثق ارتكاب «إسرائيل» جريمة الفصل العنصري من خلال التجزئة الاستراتيجية للشعب الفلسطيني، وتقسيم الفلسطينيين إلى 4 مجموعات مضطهدة، وهو ما ينطبق عليه فرض الكيان الإسرائيلي لنظام فصل عنصري «أبارتايد» ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
جاءت استقالة الدكتورة خلف من منصب هام في «الأمم المتحدة» ورفضها سحب التقرير، تأكيداً على عدالة القضية الفلسطينية، وإدانة لانتهاكات الاحتلال، وأنّ هناك مَنْ يسعى إلى سحب كل ما يتعارض مع مصالح الاحتلال، أو يُدين جرائمه، والحؤول دون صدوره، وإنْ صدر دون تنفيذه.
الاستقالة ورفض الانصياع لأوامر الأمين العام لـ»الأمم المتحدة» أنطونيو غوتيريس، ليس تمرّداً إدارياً في منظّمة دولية، بل إلتزام بإيمانها بالقيم الإنسانية السامية، التي أُسّست عليها المنظّمة الدولية، وما تربّت عليه ريما في عائلتها، وما تعلّمته في مراحل حياتها في المدرسة والجامعة والمراكز التي شغلتها وزيرة في المملكة الأردنية الهاشمية بين العامين 1993-2000، وفي «الأمم المتحدة» 2000-2017.
هي الجريئة التي وصلت إلى التميّز، ونالت الشهادات والتقديرات، وتم اختيارها كإحدى الشخصيات الطليعية في العالم بالدفاع عن حقوق المرأة والإنسان، والعمل من أجل إعطائه حقوقه.
ريما التي وُلِدت في ربيع العام 1953 بعد 5 سنوات على نكبة الشعب الفلسطيني، في أيّار 1948، وَعَتْ باكراً على ممارسات الاحتلال، وعايشتها عن كثب، بعدما أطبق الاحتلال على الجزء المتبقي من أرض فلسطين في حزيران 1967.
في ريعان شباب ريما ناضلت من أجل عدالة قضية الشعب الفلسطيني، وهي وفي كل المراكز التي تبوأتها كانت تعمل من أجل إحقاق الحق، تدافع عن قضايا الإنسان دون تفرقة في الجنسية أو الطائفة أو العرق.
في شهر آذار، الذي يزخر باحتفالات المرأة والمعلم والأم والطفل، وذكرى معركة الكرامة (21 آذار 1968)، ويوم الأرض (30 آذار 1967) ودماء الشهداء، ضربت ضربتها، وأرخت بمحطات هامة بأنْ قالت لا للخضوع.. ولا للابتزاز.. ولا للانصياع وتزوير الحقائق لصالح الجزّار، بل قول كلمة حق أمام سلطان جائر، حتى لو كان رأس الهرم في أعلى مؤسّسة، حين لا تلتزم القوانين والنصوص التي تحكم أنظمتها بالدفاع عن حقوق المظلومين والمتهمين، أشخاصاً ومؤسّسات ودولاً.
تمسّكت د. ريما بالتقرير، ورفضت سحبه، لأنّ الاعتراض على التقرير بحجّة أنّه لا يعكس آراء الأمين العام، وتم وضعه من دون مشورة مسبقة مع الأمانة العامة في المنظّمة الدولية، كما أعلن المتحدّث بإسم «الأمم المتحدة» ستيفن دوجاريك.
وتكمن أهمية التقرير، الذي يقع في 74 صفحة، مع ملحقين، في أنّه جاء بناءً لطلب 18 دولة أعضاء في «الإسكوا» في شهر حزيران 2015، بإعداد تقرير أشرف عليه الخبيران: أستاذ القانون الدولي في «جامعة برينستون في نيوجرسي» ريتشارد فوليك وأستاذة العلوم السياسية في «جامعة جنوب إيلينوي» فرجينيا تيلي، حيث أُنجِزَ التقرير، قبل أنْ تقوم قيامة «الأمم المتحدة» وتطلب من د. خلف سحبه بعد الضغوطات التي مورست ضدّه المؤسّسة الدولية.
وهاجم سفير «إسرائيل» في «الأمم المتحدة» داني دانون التقرير، مطالباً «الأمين العام للأمم المتحدة، بالتنكّر تماماً لـ«التقرير الكاذب»، الذي يسعى إلى تشويه سمعة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط «.
فيما طالبت سفيرة الولايات المتحدة في «الأمم المتحدة» نيكي هايلي بسحبه، وقالت: «إن الرقابة العامة للأمم المتحدة كانت محقة في النأي بنفسها عن هذا التقرير، لكن يجب أن تخطو خطوة أخرى وتسحب التقرير بأكمله».
وعلى الجانب الفلسطيني، أشاد وزير خارجية دولة فلسطين الدكتور رياض المالكي بمناقبية الدكتورة خلف، معرباً عن أسفه لاستقالتها التي اضطرت إلى تقديمها على خلفية ضغوطات تمت ممارستها لسحب تقرير «الإسكوا» القائم على تحليل موضوعي، ويعكس الحقائق والوقائع على الأرض، ويحتوي على استنتاجات دقيقة تستند إلى الأساس القانوني لتعريف جريمة الفصل العنصري «الأبارتايد».
وأكد الوزير المالكي رفض دولة فلسطين التام لسحب التقرير، مشدّداً على أنّه بما أنّ «محتوى وصحة استنتاجات التقرير لم تتم مناقشتها، فإنّنا نعتبر أنّ سحب التقرير سيجلب نتائج عكسية وغير مدروسة، وسيضع عواقب وخيمة وبعيدة المدى على النظام الدولي، ويوصل رسالة خطيرة إلى الدولة التي ترتكب الجرائم، مفادها أنّ الضغط بإمكانه تغيير مواقف تجاه الممارسات، والأفعال غير القانونية، علماً بأنّ الغرض من هذه التقارير هو فرض الرقابة، والنظر بجدية من أجل إيجاد سبل للانتصاف، بما في ذلك من خلال المساءلة، وفقاً للقانون الدولي».
وأكد وزير الخارجية الفلسطيني أنّ «محاولة إلغاء التقرير لم تستطع إلغاء الحقائق والوقائع التي يصفها، ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، والنظر فيها حسب الأصول، ومعالجتها في إطار مواصلة سعينا الجماعي من أجل السلام والعدالة في فلسطين».
وهاتف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الدكتورة خلف، مشيداً بدورها ومناقبيتها، ومبلغاً إياها تقليدها أعلى وسام فلسطيني تقديراً لشجاعتها ودعمها ووقوفها إلى جانب شعبنا وقضيته العادلة.
الاحتلال الذي ضغط على «الأمم المتحدة» لممارسة ضغط على الدكتورة خلف لسحب التقرير، وصف قرار الرئيس عباس بمنحها الوسام بـ«الدلالات على قيام الرئيس محمود عباس بدعم جهات متطرّفة، بل أيضاً على شنّه حرباً دبلوماسية ضد إسرائيل»، وفق ما زعم الناطق بإسم رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أوفرير جندلمان.
تخرج الدكتورة ريما خلف من «الإسكوا»، محدثة دوياً بتقرير موثّق يُدين الاحتلال على سياسة الفصل العنصري، الذي أعطى قوّة للتقرير الاستقصائي العلمي الموثّق، لتحفر إسمها بأحرف المصداقية الإنسانية، قاطعة باليقين، وتاركة منصباً شغلته بجدارة، وغادرته باستقالة شجاعة، رافضة كتم شهادة حق على جريمة موثقة، مُقلّدة أعلى وسام شرف فلسطيني منحها إياه الرئيس عباس، ووشاحاً لنضالها ومواقفها قلّدها إياه سفير دولة فلسطين لدى لبنان أشرف دبور، بعد إعلانها استقالتها الجمعة الماضي.
نظام الفصل العنصري
نظام الفصل العنصري «أبارتايد»: هو ما حكمت به «الأقلية البيضاء» جنوب إفريقيا منذ العام 1948 وحتى العام 1991، ويقوم على تشكيل جماعة قومية من خلال هذا الاستيطان، تؤكد على تميزها «العرقي الأرقى عن السكان الأصليين».
نص الإستقالة
تداولت وسائل إعلام نص استقالة الأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة، للأمم المتحدة (إسكوا) ريما خلف من منصبها يوم الجمعة الماضي، بعد ضغوط من الأمين العام للأمم المتحدة لسحب تقرير يتهم إسرائيل بفرض «نظام فصل عنصري» على الفلسطينيين.
وفي ما يلي أبرز ما جاء في نص الاستقالة:
«حضرة الأمين العام، لقد فكرت مليا في الرسالة التي بعثتها لي من خلال مديرة ديوانك. وأؤكد أنني لم أشكك للحظة في حقك بإصدار تعليماتك بسحب التقرير من موقع الإسكوا الإلكتروني، كما لم أشكك في أن علينا جميعا كموظفين لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة أن ننفذ تعليمات أمينها العام. وأنا أعرف على وجه اليقين التزامك بمبادئ حقوق الإنسان عامة، وموقفك بخاصة إزاء حقوق الشعب الفلسطيني. وأنا أتفهم كذلك القلق الذي ينتابك بسبب هذه الأيام الصعبة التي لا تترك لك خيارات كثيرة».
وأضافت: «ليس خافيا علي ما تتعرض له الأمم المتحدة، وما تتعرض له أنت شخصيا، من ضغوط وتهديدات على يد دول من ذوات السطوة والنفوذ، بسبب إصدار تقرير الإسكوا (الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد). وأنا لا أستغرب أن تلجأ هذه الدول، التي تديرها اليوم حكومات قليلة الاكتراث بالقيم الدولية وحقوق الإنسان، إلى أساليب التخويف والتهديد حين تعجز عن الدفاع عن سياساتها وممارساتها المنتهكة للقانون. وبديهي أن يهاجم المجرم من يدافعون عن قضايا ضحاياه. لكنني أجد نفسي غير قابلة للخضوع إلى هذه الضغوط».
وتابعت: «ليس بصفتي موظفة دولية، بل بصفتي إنسانا سويا فحسب، أؤمن – شأني في ذلك شأنك – بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية التي طالما شكلت قوى الخير في التاريخ، والتي اسست عليها منظمتنا هذه، الأمم المتحدة. وأؤمن مثلك أيضا بأن التمييز ضد أي إنسان على أساس الدين أو لون البشرة أو الجنس أو العرق أمر غير مقبول، ولا يمكن أن يصبح مقبولا بفعل الحسابات السياسية أو سلطان القوة. وأؤمن أن قول كلمة الحق في وجه جائر متسلط، ليس حقا للناس فحسب، بل هو واجب عليهم».
وأشارت إلى أنه: «في فترة لا تتجاوز الشهرين، وجهت لي تعليمات بسحب تقريرين أصدرتهما الإسكوا، لا لشوائب تعيب المضمون ولا بالضرورة لأنك تختلف مع هذا المضمون، بل بسبب الضغوط السياسية لدول مسؤولة عن انتهاكات صارخة لحقوق شعوب المنطقة ولحقوق الإنسان عموما. ولقد رأيت رأي العين كيف أن أهل هذه المنطقة يمرون بمرحلة من المعاناة والألم غير مسبوقة في تاريخهم الحديث، وإن طوفان الكوارث الذي يعمهم اليوم لم يكن إلا نتيجة لسيل من المظالم، تم التغاضي عنها، أو التغطية عليها، أو المساهمة المعلنة فيها من حكومات ذات هيمنة وتجبر، من المنطقة ومن خارجها. إن هذه الحكومات ذاتها هي التي تضغط عليك اليوم لتكتم صوت الحق والدعوة للعدل الماثلة في هذا التقرير. واضعة في الاعتبار كل ما سبق، لا يسعني إلا أن أؤكد إصراري على استنتاجات تقرير الإسكوا القائلة بأن إسرائيل قد أسست نظام فصل عنصري، أبارتايد، يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى».
وأردفت: «إن الأدلة التي يقدمها التقرير قاطعة، وتكفيني هنا الإشارة إلى أن أيا ممن هاجموا التقرير لم يمسوا محتواه بكلمة واحدة. وإني أرى واجبي أن أسلط الضوء على الحقيقة لا أن أتستر عليها وأكتم الشهادة والدليل. والحقيقة المؤلمة هي أن نظام فصل عنصري، أبارتايد، ما زال قائما في القرن الحادي وعشرين، وهذا أمر لا يمكن قبوله في أي قانون، ولا أن يبرر أخلاقيا بأي شكل من الأشكال. وإنني في قولي هذا لا أدعي لنفسي أخلاقا أسمى من أخلاقك أو نظرا أثقب من نظرك، غاية الأمر أن موقفي هذا قد يكون نتيجة لعمر كامل قضيته هنا، في هذه المنطقة، شاهدة على العواقب الوخيمة لكبت الناس ومنعهم من التعبير عن مظالمهم بالوسائل السلمية».
وختمت: «عليه، وبعد إمعان النظر في الأمر، أدركت أنني أنا أيضا لا خيار لي. أنا لا أستطيع أن أسحب، مرة أخرى، تقريرا للأمم المتحدة، ممتاز البحث والتوثيقِ، عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. غير أنني أدرك أيضا، أن التعليمات الواضحة للأمين العام للأمم المتحدة لا بد من أن تنفذ. ولذلك، فإن هذه العقدة لا تحل إلا بأن أتنحى جانبا وأترك لغيري أن يقوم بما يمنعني ضميري من القيام به. وإنني أدرك أنه لم يبق لي في الخدمة غير أسبوعين، لذلك فاستقالتي هذه لا تهدف إلى الضغط السياسي عليك. إنما أستقيل، ببساطة، لأنني أرى أن واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأمم المتحدة، وتجاه نفسي، ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة تسبب كل هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر. وبناء عليه، أقدم إليك استقالتي من الأمم المتحدة».