إنحرَفت التظاهرة التي دعت إليها حملة «طلعت ريحتكم» وشاركت فيها شريحة كبيرة من اللبنانيّين، عن مسارها، بعد دخول مندسّين على الخطّ وإعتدائهم على قوى الأمن الداخلي وحرق بعض الآليات، وقد تطوَّر الوضع الى مواجهات في الشارع واندلعت حرائق في وسط بيروت وحُطّمت واجهات بعض المحال، لتكشف هذه الأحداث عمق الأزمة السياسيّة بعد شلل المؤسسات وعدم إنتخاب رئيس الجمهوريّة.
لبّى عدد كبير من الشعب اللبناني الدعوة الى التظاهر للمطالبة بحقوقهم وحلّ المشكلات الحياتيّة وأبرزها أزمة النفايات التي تهدّد أمنهم الصحّي، لكنهم لم يعرفوا أنّ مطالبهم المحقّة ستتحوّل ورقة إستغلال سياسيّ، وسبباً لهزّ الأمن والإستقرار، خصوصاً أنّ رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط كان من أبرز محرّكي التظاهرات لكنّه إنسحب بعدما رأى أنّ الأمور ذهبت نحو المواجهة الأمنية، واللافت أنّ رجل الأعمال رياض الأسعد الذي كان ينوي تأسيس شركة مع جنبلاط لجمع النفايات، كان من أبرز الوجوه التي شاركت في تظاهرة يوم السبت.
طابور خامس
أصبح واضحاً أنّ كلّ شيء في لبنان معرّضٌ للصفقات والسمسرات، حتّى مطالب الشعب تُسرق، ففي حين كان القسم الأكبر من المتظاهرين متحمّساً، ونزل إلى ساحة رياض الصلح رافعاً مطالبَه المعيشيّة والحياتيّة، دخل عدد من الشبان المندسّين، أو ما يُعرف لبنانياً بـ«الطابور الخامس»، الذين ينتمي بعضهم الى جهات سياسيّة لتخريب التظاهرة وحرف بوصلة إتجاهها ضاربين بعرض الحائط كلَّ هموم الشعب ومطالبه، محاولين إيجادَ شرخ مع القوى الأمنية لتوظيفه في معارك هامشيّة.
هذا وسيطر الهدوءُ الحذر طوال يوم أمس على وسط بيروت بعد مواجهات السبت، حيث نصب شبان حملة «طلعت ريحتكم» الخيم وبات عدد منهم ليلته فيها. وبعد كلمة رئيس الحكومة تمام سلام، أعلن منظّمو الحملة التصعيد، ودعوا الى تظاهرة سلميّة، لكنّ المشهد بدا منذ الخامسة عصراً محضّراً للإشتعال في أيّ لحظة.
ففي حين كان شبّان يرفعون علماً لبنانياً طويلاً من أمام السراي الى مسجد محمّد الأمين تعبيراً عن وطنيّة التحرّك وسلميّته، وتدفق العائلات مع أطفالها الى الساحة، كان المندسّون يرمون عبوات المياه والمفرقعات الناريّة والقنابل الصوتية وأكياس النفايات على قوى الأمن الداخلي التي تقف خلف الشريط الشائك من أجل حماية السراي الحكومي، وفي الوقت عينه يرمون عبوات على المتظاهرين للإيحاء بأنّ القوى الأمنية تعتدي على المواطنين، ولإشعال المواجهات مجدَّداً.
هذه الممارسات الطائشة إستفزّت معظم المشاركين الذين طالبوا بوقف استهداف القوى الأمنية لأنها جزءٌ من الشعب المقهور ولا دخلَ لها بما يحدث، حيث إنّ «معركتنا ليست معها بل مع مَن يعطّل البلد ويدخل في الصفقات والسمسرات».
إستغلال سياسي وفنّي
ظهر جلياً الإستغلال السياسي للتظاهرة، فيما حاول بعض الفنانين سرقة الأضواء وعلى رأسهم الفنان معين شريف الذي حُمِل على الأكف وطالب الجميع بمحاربة الطبقة السياسيّة الفاسدة وطردها من البلد، فما كان من أحد المتظاهرين إلّا أن أجابه قائلاً: «كيف يطلب إسقاط الطبقة السياسيّة، وهو الذي يغنّي لبعض الزعماء اللبنانيين ويؤلّههم، حتّى إنه غنّى لبشار الأسد، ويجب طرده من الساحة مثل بقية السياسيين».
توحّد جميع المتظاهرين تحت العلم اللبناني الذي رُفِع وحيداً، وغابت أعلام الأحزاب والتيارات السياسيّة، وعلى وقع أغاني الثورة هتف الشباب للبنان، وثورة ثورة، والشعب يريد إسقاط النظام. وفي هذه الأثناء كان المندسّون يحضّرون لفعلتهم وفتنتهم.
عند الساعة السابعة مساءً تطوّر الوضع، حيث بدأوا برمي الأحجار ومكعبات النفايات والحواجز على القوى الأمنية، وحاولوا سحبَ الشريط الشائك، فاضطُرت القوى الأمنية لإستخدام خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع لتفريق المحتجّين، فسُجِلت حالات إغماء نتيجة التدافع، فيما إمتعض كثيرون من المسار الذي يسلكه الإحتجاج.
«طلعت ريحتكم» تتبرّأ
وعندما حاولت حملة «طلعت ريحتكم» والمنظّمون ردعَ المندسّين، تواجهوا بطريقة عنفية وإستمرّوا في شغبهم، وبعدما لاحظت الحملة أنّ الأمور تذهب نحو الأسوأ، أعلنت الحملة فكّ الاعتصام في ساحة رياض الصلح، ودعت مؤيّديها للتوجّه فوراً إلى ساحة الشهداء، مؤكدة انها غير مسؤولة عن الموجودين داخل ساحة رياض الصلح.
دفع تبرّؤ الحملة من مسؤولياتها وعدم قدرتها على المَوْنة على المشاغبين، القوى الأمنية الى تعزيز تمركزها لأنها أيقنت أنّ المخطّط تخريبي ويهدف إلى جرّ البلد نحو مواجهات جديدة، وضرب مطالب الشعب.
وبعد وقت قصير من الهدوء، اجتاز عدد من المشاغبين الشريط الشائك الأوّل الفاصل، وأضرموا النيران في خيمة قبل أن تخمدها عناصر القوى الأمنية. وتزامن ذلك مع إلقاء الحجارة وقنابل «مولوتوف» على القوى الأمنية.
أهالي العسكريين
ولم يَسلم أهالي العسكريين المخطوفين من أعمال الشغب، حيث أعربَ حسين يوسف، والد الجندي المخطوف محمد يوسف، باسمِه واسم الأهالي عن الأسف والاستنكار الشديدَين «لِما رأينا وما حصل من أعمال شغَب متعمَّدة. فقد تحوّلت المظاهرة بلمحِ البصر إلى العنف ومواجهة القوى الأمنية من مجموعة كبيرة من الشبّان المشاغبين بطريقة حاقدة جداً».
وقال: «نحن والقوى الأمنية مَن دفعَ الثمن في مخيّمنا حيث دمّروا وأحرقوا جزءاً من الخيَم والمعدّات الخاصة، ما دفعَنا للانسحاب والهرَب تاركين كلّ شيء وراءَنا، ولا نَعلم ماذا حدث».
ونتيجة ضياع المسؤولية، طلبت قوى الأمن الداخلي من منظّمي تحرّك حملة «طلعت ريحتكم»، تحمّل مسؤولياتهم في ضبط الوضع للحؤول دون استمرار مثيري الشغب في مواجهة قوى الأمن. ودعتهم كلجنة منظمة إلى المساهمة مع قوى الأمن لإعادة الأمور إلى طبيعتها. فأعلن الناشط المدني في الحملة عماد بزي أنْ «لا علاقة للحملة بما يحدث في ساحة رياض الصلح»، متّهماً «بعض الاحزاب بإرسال عناصر لتوتير الوضع والتشويش».
36 جريحاً لقوى الأمن
إستمرّت المواجهات مع المشاغبين في رياض الصلح حتّى بعد خروج المتظاهرين الى ساحة الشهداء، وإنقسم المشهد مثلما كان سابقاً، ساحتين ومواجهات وإعتصامات سلميّة…
وأعلنَت قوى الأمن الداخلي، عن سقوط 36 عنصراً جريحاً، إصابة أحدِهم خطرة، نتيجة تعرّضِهم للرشق بالحجارة وغيرها من الأدوات من المشاغبين، وقد نَقلهم الصليب الأحمر إلى عدد من مستشفيات العاصمة لتلقّي العلاج. فيما أعلن الصليب الأحمر عن نقل 49 حالة إلى مستشفيات المنطقة احداها في حالة موت سريري.
وبعد كرّ وفرّ تمكّنَت القوى الأمنية من بسط سيطرتها على ساحة رياض الصلح التي خلت من المتظاهرين، ولم يبقَ فيها إلّا آثار الحرائق والخراب، فيما انتقلت المواجهات إلى وسط بيروت موقِعةً عدداً مِن الإصابات في صفوف الطرَفين.
تضامن مناطقي
وتضامناً مع التحرّكات المطلبية، اعتصم عدد من الشبان والشابات في طرابلس، في ساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس، حيث رفعوا اليافطات وأطلقوا الهتافات المطالِبة بإنصاف المواطنين واستقالة الحكومة. وقطع عدد من اهالي القاع الطريق الدولية بالاطارات المشتعلة دعماً لحركة «طلعت ريحتكم»، مستنكرين ما يتعرّض له المتظاهرون.
وتجمّع عدد من اهالي الهرمل امام السراي دعماً للتحرّك، فيما قطع عدد من المتظاهرين طريق ضهر البيدر الدولية عند نقطة المديرج قبل أن ينضمّوا الى التظاهرة في ساحة رياض الصلح. وليلاً قطع عدد من الشبان طريق السعديات، سليم سلام، ومثلث كنيسة مار مخايل في الشياح، بالاطارات المشتعلة وقد تدخلت القوى الأمنية وأعادت فتح الطريق.