< ارتكبت إيران في اليمن مجازفة صعبة. توهّمت أن السعودية لا تملك غير خيار التعايش مع ترسانة صاروخية في عهدة عبد الملك الحوثي. اعتبرت أن تطويق السعودية سيدفعها إلى القبول بنظام إقليمي جديد، تكون إيران اللاعب المهيمن فيه. لم تتوقع أن تستنهض السعودية اللاعب العربي في الإقليم وبغض النظر عن الموقف الأميركي. والحقيقة هي أن إيران تطالب السعودية منذ سنوات بالاعتراف بما تسميه الحقائق الجديدة في الإقليم، أي ثمار الانقلاب الكبير الذي أطلقته إيران، خصوصاً غداة إسقاط نظام صدام حسين.
أعادتني التطورات إلى ما سمعته قبل سنوات من سياسي يعرف إيران وأهل القرار فيها. قال: «أعرف أن السعودية دولة مهمة وذات ثقل اقتصادي وسياسي وإسلامي. وأعرف أن المنطقة لن تستقر إذا لم يحصل تفاهم إيراني- سعودي. الحل هو أن تنتهج السعودية سياسة واقعية. أن تتقبّل أن سقوط نظام صدام حسين أدخَلَ تغييراً كبيراً على موازين القوى، لا يمكن الانقلاب عليه. رفْضُ الاعتراف بالوقائع ليس سياسة. أميركا تستعد للانسحاب من العراق وستترك أهل المنطقة يقلعون أشواكهم بأيديهم، ما دام النفط يتدفّق وإسرائيل لا تواجه خطراً وجودياً. لم تعد (أميركا) مهتمة بإدارة الإقليم ولم تعد مستعدة لدفع ثمن هذا الدور. على الدول الأساسية في المنطقة أن تجلس لبلورة نظام إقليمي جديد».
وأضاف: «انظر إلى الخريطة والأرقام معاً. إيران والعراق ثقل سكاني ونفطي. اضف إليهما سورية، وحين تقول سورية تقول لبنان أيضاً. أنظر إلى حاجات النفط والغاز وأرقام التجارة تكتشف أن مصلحة تركيا ستكون مع هذا المحور. على السعودية أخذ ذلك في الحسبان، فالتغييرات التي حدثت في موقع العراق وسورية ولبنان عميقة، ومحاولة الانقلاب عليها ستدخلنا في حرب استنزاف مذهبية طويلة. السعودية ليست دولة مغامرة وطبيعة نظامها تحول دون اتخاذ قرارات من هذا النوع».
وقال: «إذا استمرت السعودية في رفض القبول بالوقائع، فأنا أخشى أن تواجه متاعب في السنوات المقبلة. متاعب في ثلاثة أماكن. الأول البحرين والثاني الحدود العراقية- السعودية والثالث الحدود اليمنية- السعودية. أعتقد بأن مصر على رغم أهميتها لا تملك اقتصاداً يدعم تطلعها إلى دور فاعل. من مصلحة المنطقة أن تكون السعودية آمنة ومستقرة، ولكن عليها انتهاج سياسات واقعية تسلم بتوزيع جديد للأدوار».
تعاملت إيران مع السعودية بوصفها المنافس والخصم في الإقليم والعالم الإسلامي. وتعاملت مع الثقل السعودي بوصفه عقبة تعترض تقدم البرنامج الإيراني، والاعتراف بما حققه من اختراقات. اعتقاد طهران بأن الرياض غير قادرة على قيادة هجوم مضاد في الإقليم، خصوصاً بسبب مغازلة باراك أوباما لإيران، دفَعَها إلى تسريع برنامجها. أضافت الحلقة اليمنية إلى سلسلة طموحاتها من دون أن تتوقف عند الدرس الذي كان يُفترَض أن تستنتجه من إغلاق النافذة البحرينية في وجهها. كان رهان إيران الدائم هو أن السعودية غير قادرة على اتخاذ قرار كبير يرمي إلى استعادة التوازن في الإقليم.
تعرّض البرنامج الإيراني لمفاجأة غير سارة حين امتدت رياح ما سُمِّي «الربيع العربي» إلى سورية. اضطرت إيران إلى الانخراط في حرب على أرض سورية. تحولت سورية من نقطة قوة لما سُمِّي «حلف الممانعة» إلى ساحة استنزاف لهذا الحلف. استنزاف لقدراته المالية والبشرية فضلاً عن شعاراته. ثم أن الحرب المفتوحة في سورية وضعت إيران في مواجهة مباشرة مع الأكثرية الصريحة في العالم العربي. ساهمت مجريات الحرب في سورية في إعادة تحريك البركان العراقي.
لم تسلك السعودية طريق الخضوع للتغييرات التي أحدثها الهجوم الإيراني. شكل الخطأ الذي ارتكبته إيران في اليمن فرصة لمجاهرة السعودية بقرار استعادة التوازن. ولد تحالف «عاصفة الحزم» على هذا الأساس الذي عليه أيضاً سُجِّل تحسُّن العلاقات مع تركيا، وهو يرتّب بالضرورة انعكاسات على الساحة السورية.
واضح أن السعودية اختارت مواجهة محاولة إيران كسر التوازنات. هكذا وجد أهل الإقليم أنفسهم أمام السعودية الجديدة في سرعة اتخاذ القرار. السعودية الجديدة في العسكر والأمن والديبلوماسية والإعلام. تتصرف السعودية وكأن معركة استعادة التوازن حاسمة وطويلة ومتعددة المسارح. استعادة التوازن ستكون الهمّ الأول في القمة الخليجية- الأميركية. معركة بهذا الحجم تستدعي بالضرورة التصدّي الحازم لتهديدات الداخل الإرهابية. وتستدعي كذلك تعميق مشاعر الاستقرار في الداخل وتنظيم بيت الحكم. وفي هذا السياق يمكن فهم التغييرات السعودية الأخيرة، فمعركة استعادة التوازن قد تكون قاسية وطويلة.