حتى اللحظة، تبدو السلطة عاجزة. وكأنّ ساعة حساباتها متأخرة لأعوام. كل طروحاتها “باهتة”، وفيها الكثير من السذاجة لتقديراتها لما يحصل خلف حدود قصور “كبار القوم”. الناس سبقتها بأشواط. تجاوزت كل الحواجز والعوائق النفسية والطائفية والمذهبية والسياسية، وكسرت جدران الخوف. باتت الخشية على المستقبل أكبر وأقوى من أي رابط قد يربط الناس بالأحزاب والقوى الحاكمة.
سقطت تلك المحرمات التي كانت لعقود تجعل من الأحزاب الطائفية “قديّسي” جماهيرها، وتهدّمت جدران الفصل بعدما وحّد “رغيف الخبز” و”فرصة العمل” بين ابناء عكار وطرابلس والبقاع والهرمل والشوف والمتن وبيروت وصيدا وصور والنبطية ومرجعيون.. لا بل صار نجوم السياسة من صنف “المنبوذين” و”المكروهين” ما دفع بالمحطات الاعلامية إلى “مقاطعتهم” مقابل تجيير “الهواء” لهتافات الناس.
في اليوم الثالث للحراك الشعبي، بات مؤكداً أنّ هذه الانتفاضة، هي ثورة بكل ما للكلمة من معنى. رفعت السقوف إلى حدودها القصوى. نهر البشر جرف كل الاختلافات والتمايزات المناطقية والمذهبية، ليعبّر عن وجع واحد ومعاناة واحدة…. وعلم واحد.
الأكيد أنّ هذه اللوحة المليونية تضم في مكوناتها، الى جانب المستقلين غير المحزّبين، الكثير من الجمهور المسيّس، من مختلف الطوائف والمناطق، ولكن من دون لافتات حزبية. شرائح كثيرة ذات انتماءات حزبية انتفضت على مرجعياتها لتلتحم وتذوب في وعاء الثورة الاجتماعية التي تهتف باسم الجميع. بعض الشارع العوني هو جزء من البركان الثائر. قدامى المناضلين العونيين والمتقاعدون العسكريون اندمجوا في المدّ البشري، لكنهم فضلوا عدم تضييع الفرصة في “استثمار رخيص” وتجنّبوا الوقوف على المنبر أو في الواجهة، وحصروا مهمتهم بالتحرك الميداني. وتركوا الكلام للمرحلة اللاحقة.
مشهد للبنانيين يفترشون الطرق متحدّين كل العراقيل، بدّل الأولويات. صارت هناك استحالة في إقناع هؤلاء “الثوار” بفتات الاصلاحات الترقيعية من جانب طبقة سياسية مشكوك بصدقيتها وبجديتها في تصويب اعوجاج صار عمره أكثر من ثلاثة عقود. وهذا ما يربك الجالسين على كراسي القرار.
تكاد تتخطى أعداد المعترضين على طول الوطن واغترابه، أعداد أولئك الذين شاركوا في الانتخابات النيابية الأخيرة على الرغم من مزايا النظام النسبي الجذّابة. وجّهت صناديق الاقتراع في تلك اللحظة المخيّبة للآمال، إشارات الإنذار، لكن قوى السلطة كابرت على مؤشرات الأرض ومضت في سلوكها وسياساتها وكأنّ شيئاً لم يكن.
يمرّ الوقت سريعاً على “عدّاد” رئيس الحكومة سعد الحريري. مهلة الساعات الـ72 التي منحها لشركائه لكي يسهّلوا مهمته بضوء أخضر يسمح له باختراق جموع المعترضين لتسجيل هدف في المرمى الإصلاحي، توشك على الانقلاب عليه.
مقابل الغطاء الذي أمّنه “حزب الله” للعهد وللحكومة، فعلها، حليف “تيار المستقبل” المفترض، رئيس حزب “القوات” سمير جعجع وقفز من القارب قبيل غرقه بمن فيه. أدرك قبيل ساعات من ساعة الحسم، أنّ ما ستقدم عليه الحكومة من خطوات إصلاحية، ستعبّر عنه الورقة الاقتصادية المشتركة، لن ترضي الجمهور المنتفض. ستكون بمثابة مسكّن، سيرفضها الجسم المريض، لأنها دون العلاج المطلوب.
وعلى الرغم من أنّ الشائعات التي تحدثت عن تفاهم ضمني بين الحريري وجعجع يقضي بعدم قبوله استقالة الوزراء الأربعة، إلا أنّ المطلعين يؤكدون أنّ خطوة “القوات” ستكون لها أثمانها السياسية في حسابات التحالف الرباعي، خصوصاً اذا ما استعادت الأوضاع استقرارها، ولو بعد حين.
عملياً، تدرك القوى الحكومية أنّ “الخطة أ” الموضوعة للخروج من “المصيبة”، والتي تقضي بالتفاهم على سلّة اجراءات جدية تطال عمق الأزمة الاقتصادية – المالية من خلال التوجه إلى كبار المكلفين وإعفاء صغارهم من ضريبة المساهمة الإنقاذية، تكاد تستنزف حالها، لأنها لا ترقى إلى مستوى حالة الطوفان التي تجتاح الطرقات والساحات، طالما أنّ “نَفَس” الناس الغاضبة لا يزال صامداً وإلى مزيد من التمدد والتوسّع.
لا يفسّر تردد رئيس الحكومة في الدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء إلا قناعته بأنّ ما ستقدمه حكومته من رؤية علاجية لا يصبو إلى تطلعات المحتشدين في الشوارع ولن يروي غليلهم، وسيردون بمزيد من الصراخ والعزم والإرادة والتصميم على التغيير.
ويشير أحد المعنيين إلى أنّ القوى الحكومية باتت تشعر بحراجة الموقف ودقته، وبأنّ أي رزمة انقاذية قد توضع أمام الرأي العام، ليست محصّنة بحجة الإقناع، بسبب فقدان الطبقة السياسية هيبتها ومكانتها. حتى أنّ اطلالة الأمين العام لـ”حزب الله” قوبلت بردات فعل سلبية فقط لأنه خالف مسار الطوفان البشري مؤمّناً الحماية للعهد والحكومة.
“الخطة ب”
ويقول إنّ “الخطة أ” تكاد تعلن فشلها حتى قبل خروجها إلى العلن والكشف عن بنودها، وأنّ التحالف الخماسي الذي يحمي التركيبة السلطوية، بعد عودة “الحزب التقدمي الاشتراكي” إلى بيت طاعته، ولو بشروط، يبحث في أفكار أكثر تقدمية من شأنها أن ترفع من منسوب التنازلات، لإرضاء الجمهور المعترض وتفريق صفوفه.
وفي هذا السياق يتحدث المطلعون عن سيناريو تعديل حكومي يكون بمثابة “الخطة ب” اذا ما أثبتت “الخطة أ” فشلها، ليطال “كبار الوزراء” في محاولة لامتصاص نقمة الناس التي عبرت الحدود وطالت دول الاغتراب، ويلفتون إلى أنّ الانقلاب الذي أحدثه الحراك الشعبي بات يتطلب صدمة كهربائية استثنائية تخرج الناس من الشارع، ولا بدّ من “كبش محرقة” يقدّم على “مذبح” الانتفاضة، ولتوجيه رسالة سريعة إلى المجتمع الدولي للشروع بالإصلاحات على أيدي مسؤولين لم تلوثهم أخبار الفساد… وإلّا فإن أي خطوة ناقصة ستؤدي إلى ردة فعل أكثر تصاعدية من جانب المعترضين.
ومع ذلك، يؤكد أحد الوزراء المشاركين في طبخة المشاورات أنّه تمّ الانتهاء من الورقة الاصلاحية التي ستعرض على مجلس الوزراء الذي سيعقد اليوم لاقرارها، مشيراً إلى أنّ مسألة التعديل الحكومي لا تزال غير محسومة، حتى بالنسبة لتسمية وزراء بديلين عن وزراء “القوات”.