مخاطبة الرئيس حسان دياب اللبنانيين بالقول إنه ليس من الطبقة السياسية الفاسدة و«لن أكون»، أتى متأخراً. ما فعله قبل ثلاثة أيام كان النقيض. أعطى دليلاً على أنه – إن لم يكن منها وقد لا يكون – أضعف من أن يمنعها أن تكون كذلك
ما بين جلسة التعيينات المالية والادارية في 10 حزيران، ومخاطبته اللبنانيين في 13 منه، تغيّرت صورة رئيس الحكومة حسان دياب. في جلسة التعيينات سلّم بما لم يكن قد قَبِلَ به في 2 نيسان، عندما أوقف إقرارها. في جلستي مجلس الوزراء في 12 حزيران انكفأ عمّا كان يعد نفسه له قبل 48 ساعة. في الغداة هاجم خصومه، أسلافه والطبقة السياسية الفاسدة التي قادته الى حكومته. فإذا هو اكثر من حسان دياب واحد.
حينما سئل عن دوافع قبوله بتعيينات فرضتها القوى السياسية على حكومته، برّر بأن ما سيليها «سيكون اهم»، ما حمل محيطين به ووزراء على تقدير الخطوة المكتومة هذه بأنها إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إذ يشكو دياب من عدم تعاونه معه. في وقت سابق عارض رئيس البرلمان نبيه برّي إقالة سلامة في ظل شغور المناصب المالية الرئيسية، وأبرزها نواب الحاكم، ما بدا مع إقرار التعيينات سقوط هذه الذريعة. اقترن تكهن الإقالة بتحديد جلستين استثنائيتين لمجلس الوزراء في يوم واحد، أولى في السرايا وثانية في قصر بعبدا، ما يقتضي صدور قرار ما مهم عن الثانية.
ساهم في تعزيز فرضية الاقالة في الجلسة الاولى، انتقادات عنيفة وجهها وزير التربية طارق المجذوب الى الحاكم قبل ان ينضم الى الجلسة، قائلاً «إما نقيله أو يُقيلنا هو»، مشيراً الى أنه «لا يصدق معنا»، مسهباً في الكلام عن تجاوزاته التي اوقعت البلاد في المأزق النقدي. للتو رد وزراء حركة امل وتيار المردة بأن المسؤولية لا تقع عليه وحده. من ثم دار الحوار معه حول اسئلة تقنية تتعلق بالوضع المالي، رد سلامة في اثرها باقتراح تدخّل مصرف لبنان للدفاع عن الليرة في مواجهة ارتفاع الدولار الاميركي، تبنته الحكومة لاحقاً.
عندما عزا الانهيار النقدي الى ما حدث منذ 17 تشرين الاول 2019، اجابته وزيرة العدل ماري كلود نجم بأن تلك الاحداث «نتيجة الازمة وليست سبباً لها»، واضعة السبب الفعلي في «السياسات المالية الخاطئة، لا بل المجرمة، التي تتحمّل مسؤوليتها الحكومات المتعاقبة ووزراء المال، ثم مصرف لبنان، ثم المصارف». سألته هل يعتقد بأن من شأن اقتراحه وقف ارتفاع الدولار «إذا كان نعم، فلماذا لم يُتخذ قبلاً، واذا كان لا، فقل لنا كي نعرف كيف نتصرف». لم يجب، ولم يعقب رئيس الحكومة. في ما بعد، واصل المجذوب حملته على سلامة في حضوره.
ما قيل في جلسة مجلس الوزراء قبل الظهر، لم يكن قاطعاً بتوقّع اقالة الحاكم على وفرة الاشاعات عنها. في ذلك الصباح حضر البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى قصر بعبدا، والتقى رئيس الجمهورية ميشال عون الذي كان استقبل في اليوم السابق، غداة اقرار التعيينات والتلميح الى اقالة سلامة، السفيرة الاميركية دوروثي شيا. كلاهما، البطريرك والسفيرة، رسما دائرة حمراء من حول الحاكم يُحظّر الاقتراب منها. قبل الجلسة الثانية لمجلس الوزراء شوهد برّي يصحب سلامة، ويدخلان معاً الى مكتب عون. اذذاك تبدّدت الاشاعات والتكهنات مع اعلان رئيس مجلس النواب بنود اتفاق.
دياب: ماذا أفعل في دولة تمشي بثلاث أرجل؟
قبل ان يدخل الى جلسة مجلس الوزراء، قال دياب عندما سأله احد الوزراء هل يقتضي توقّع الاقالة، فأجاب بالنفي. ثم قال: «الرئيس عون لا يريد».
لم تكن لدى رئيس الحكومة اجابة واضحة عن اسباب استدعاء سلامة الى جلسات مجلس الوزراء، مرة تلو اخرى، بلا طائل، وتوجيه الانتقادات اليه «الى حد شرشحته»، دونما ايجاد حل للمعضلة النقدية، سوى القول: «لا استطيع المشي على رِجْل واحدة اذا كانت الدولة تمشي على ثلاث ارجل».
بذلك لم يعد غامضاً المسار الذي سيجد رئيس الحكومة نفسه ملزماً بالمضي فيه. لم تغفر له مخاطبته اللبنانيين في 13 حزيران ما حدث منذ جلسة التعيينات. تحدّثه عن اكتشاف «هيكل الفساد» غير كاف للذهاب الى ابعد من الحصول على «الوثائق والمعلومات والوقائع» التي تحدّث عنها، وقال إن حكومته ستفضحها على الملأ، من غير ان يكون بالفعل متيقناً من ذلك.
واقع الامر ان ما حدث في الايام الاخيرة يضع دياب قبالة معطيين دالين:
1 – امتحان التعيينات المالية والادارية امسى قياساً لكل تعيينات مماثلة، او اجراءات مشابهة، في المستقبل تقدم عليها حكومته. لم يكن اخراجها الا على نحو مطابق لما كانت تفعله حكومات الوحدة الوطنية بتقاسمها الحصص والمناصب. ما يعبّر عن مغزى هذا الامتحان، ان وزيري سليمان فرنجية تغيّبا عن جلسة كانت له حصة فيها بتعيين عادل دريق في لجنة الرقابة على المصارف. كَمَن غضب فرنجيه ومقاطعة وزيريه الجلسة – مع انه برّرها برفضه المحاصصة – في طلبه تعيين اثنين، فأعطي واحداً فقط، بينما ذهبت الحصة المسيحية الى رئيس الجمهورية وحزبه التيار الوطني الحر. اياً يكن موقفه السلبي، من المتعذّر تجاهل فرنجية اذا كان المطلوب اقرار التعيينات، مع ان مشكلته ليست مع دياب ولا حكومته، بل مع الفريق المسيحي المناوئ له. في لعبة التحالف والتوازن بين القوى السياسية، اصغرهم حجماً كأكبرهم حجماً في الفيتو الذي يملك.
2 – رغم ما قيل له قبل جلسة التعيينات، مذ تسلّم الوزراء نبذات المرشحين لها، ثم قيل له على اثرها ان الافرقاء في حاجة اليه اكثر مما هو في حاجته اليهم، اضف ان لا بديل منه ومن حكومته في المرحلة الحاضرة، اكتفى بردّ فعل عابر ان ليس في وسعه ان يزعل رئيس الجمهورية وحزبه، ولا ثنائي حركة أمل وحزب الله. دافع عن حصته في التعيينات تلك عبر النائب الثالث لحاكم مصرف لبنان سليم شاهين ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف مايا دباغ ومواصفاتهما، من غير ان يقدّم تفسيراً للانقلاب الذي وقع عليه في مجلس الوزراء قبل الشارع. في جلسة 2 نيسان، قرن تأجيل التعيينات المالية بالطلب الى وزير المال غازي وزني، ذي الصلاحية القانونية باقتراح اسماء المرشحين للمناصب الشاغرة، التقدّم بثلاثة اسماء عن كل منصب. ذلك ما فعله الوزير المختص. واقع ما حصل ان القوى السياسية تجرأت عليه بانتزاع التعيينات من حكومته. احتالت على شرطه، بأن سلّمته الاسم الذي يقتضي تعيينه وحده في الجلسة. لم يعدُ المرشحان الآخران عن كل منصب سوى للتعمية. دارت التعيينات على النحو الآتي: يطرح رئيس الحكومة الاسم الاول لمنصب – المختار سلفاً – فلا يعلّق عليه الوزراء. ينتقل من ثم الى المنصب التالي. بذلك عُرفت اسماء الموظفين الكبار المرشحين قبل الوصول الى جلسة مجلس الوزراء.
مع ذلك، قيل لرئيس الحكومة عبارة مقتضبة: كلما اعطيتَهم سيطلبون اكثر.