لم يبقَ إلا ان تُقبّل الدولة اللبنانية من أعلاها حتى أسفلها يدَ رياض سلامة ليتكرّم بالإفراج عن حسابات المصرف المركزي كلّها، تاركاً شركة “ألفاريز” تقوم بالتحقيق الجنائي.
ويمكن التضحية بالكرامات لو كان “الحاكم” تلك القامة المالية الاستثنائية أو صاحب مكانة أخلاقية مُهابة، لكنْ، معيبٌ الرضوخ لإرادته ورغبات من وراءه رغم علم الشعب اللبناني انه ليس إلا رأس جبل جليد “المنظومة” التي أوصلته الى الحاكمية، ثم مدّدت إقامته في أخطر مرافق الجمهورية.
هذه المرّة يستحق الرئيس “زلغوطة” من كل اللبنانيين. فتأكيده على واجب الحكومة العتيدة التحقيق الجنائي في البنك المركزي قد يجعل المواطن، الذي دفع غالياً ثمن “العهد القوي”، يغفر جزءاً من خطايا السنوات الأربع التي “تنذكر وما تنعاد”، رغم الشك الذي يراود النفوس من جراء سوابق التسويات التي حوَّلت “الإبراء المستحيل” الى نكتة سمجة، وجعلت شراكة البواخر والصفقات تتمة منطقية لنقض الكلام عن “النظام السوري الذي يضرم النار ويلعب دور الإطفائي” و”سلاح حزب الله غير الشرعي”. (من أدبيات مقابلات الجنرال الموثقة).
أطرف ما في حجج جوقة رياض سلامة ودجَّالي منبر المجلس النيابي أن “السرية المصرفية” قدس الأقداس وهي التي جعلت رؤوس الأموال العربية واللبنانية المهاجرة تنهال على النظام المصرفي، وأننا دولة محترمة لا تنتهك “قانون النقد والتسليف”، والكذبة مفضوحة لدرجة ينسى معها هؤلاء انه في ظل هذا النظام والقانون والحاكم العظيم طارت ودائع المواطنين، وحوَّل النافذون في الدولة والمصارف والأحزاب والميليشيات أموالهم برعاية المراوغين في اقرار “الكابيتال كونترول”، ولا يُستخدم التذرع بقانون السرية اليوم والامتناع عن كشف الحسابات، الا لحماية السارقين وتغطية تواطؤ رياض سلامة مع وزراء المال وأصحاب المصارف وعموم المنظومة، على الأقل عبر إخلاله بواجب الحفاظ على أموال الناس ومنع الإفلاس والامتناع عن ألاعيب “الهندسات”. ولا تستقيم أبداً حجة المُرتشين بأن رياض سلامة لم يكن صاحب قرار بل سهَّل تمويل الدولة، فمَن لقَبُه “حاكمٌ” هو مُحصنٌ تجاه الجميع، وكان يستطيع درء الضغوط بنُبل الاستقالة وليس بوضاعة الاستكانة.
يتعين على الرئيس سعد الحريري تحديداً، وهو مُقبل على تشكيل حكومة لا تبشر بالخير بفعل رضوخه لمنطق المحاصصة وإعادته تدوير وزارات “المنظومة” بـ”أمبلاج” جديد، أن يتوقف عن الدفاع عن رياض سلامة احتراماً لعقول اللبنانيين ولحقِّهم في محاسبة أحد أدوات “دولة الفساد العميقة”، الذي تقاطعت في شخصه على مدى ثلاثين عاماً مصالح الاحتلال السوري وارتكابات الطبقة السياسية والسلاح غير الشرعي. وما دام آتياً باسم المبادرة الفرنسية، فالحريري يعلم بلا شك انها ليست A la carte وأن احد أبرز شروطها التدقيق الجنائي.
لا أحدَ يحمِّل رياض سلامة وحده مسؤولية الانهيار الكبير. فكلنا نعلم ان معظم أهل السلطة والسياسة سراق مال عام وخارجون على القانون. هم مافيا، ولأن من تقاليدها ان تأكل بعضها وأصدقاءها، فـ”الحاكم” طبقٌ لن تغُصَّ به، وسيُبرِّد فعلهم قلوب كثيرين.