هل قرّر رياض سلامة الوقوف في وجه السلطة السياسية، على خلفية التصدّي لاستمرار النزف في الاموال المتبقية في المركزي، والتي وصلت الى الاحتياطي الالزامي؟ وما هي التقديرات للنتيجة التي ستنتهي اليها هذه المواجهة؟ من سيرضخ لمن، وماذا سيحصل؟
منذ الفصل الأخير من العام 2020، بدأ حاكم مصرف لبنان يرسل إشارات واضحة الى السلطة السياسية مفادها ان الاموال التي يستخدمها المركزي في الدعم بدأت تنضب، ولا بد من إيجاد وسيلة لترشيد هذا الدعم وتنظيمه قبل الوصول الى الاحتياطي الالزامي الذي لا يمكن استخدامه أو الانفاق منه.
بعد مرور ستة أشهر على بداية التحذيرات، وإنفاق حوالى 3 الى 4 مليارات دولار اضافية منذ ذلك الوقت، وتراجُع سقف الاحتياطي الالزامي من 17,5 مليار دولار الى حوالى 15 مليار دولار فقط، قرّر سلامة ان ينتقل من التحذير والنصح الى التصدّي والرفض. وأبلغ السطة السياسية انه غير مستعد وغير قادر على انفاق أي دولار من الاحتياطي الالزامي، وان المطلوب خطة لترشيد الدعم يبدأ تنفيذها فوراً.
هذا الموقف جاء في اعقاب ما لاحظه كثيرون من ميوعة غير مفهومة في معالجة هذه المشكلة التي تحولت الى كارثة مالية. وتقاذفت الحكومة المستقيلة مع المجلس النيابي كرة المسؤولية، بحيث ضاع الوقت وهُدر المزيد من المال.
وفي كلامه الأخير الى وكالة «رويترز» قدّر وزير المالية غازي وزني ما تبقّى من أموال في مصرف لبنان بحوالى 15,8 مليار دولار، من أصلها 15 ملياراً لا يمكن استخدامها لأنها الاحتياطي الالزامي.
هذا الكلام يشير بوضوح الى عمق الكارثة التي يستعد لها البلد. للأسباب التالية:
اولاً – انّ خطة ترشيد الدعم لا تزال تحتاج الى إقرار من قبل الحكومة، والى مناقشة وإقرار في مجلس النواب، بما يعني انها ستحتاج الى وقت طويل. واذا أخذنا في الاعتبار انّ الخطة قد لا تقر في خلال شهر رمضان، تحاشياً لضغط معيشي اضافي قد يتعرض له الصائمون، فهذا يعني انها، وفي حال تقررت، لن تبدأ قبل نهاية ايار، موعد نفاد الـ800 مليون دولار، والوصول الى الاحتياطي الالزامي، أي صفر إنفاق.
ثانياً – ان الترشيد بعد هذا التاريخ لا ينفع، لأن المطلوب في ذاك الوقت وقف الانفاق نهائياً، فمن أين سيتم تمويل الدعم الجزئي والتدريجي الذي يجري الحديث عنه اليوم في خطط الترشيد؟
ثالثاً – الأرقام التي كشفها وزير المالية تعني ان ترشيد الدعم لا يستطيع ان يكون على مدى طويل، بمعنى انّ افضل الممكن ان يخفّض الدعم الى النصف دفعة واحدة، لكي يصبح المبلغ المتبقي كافياً لمدة 4 أشهر بدلا من شهرين.
رابعاً – اذا كانت الحكومة مصرّة على عدم البدء في ترشيد الدعم قبل إقرار البطاقة التمويلية للأكثر حاجة، وبالعملة الوطنية، لأنه لم يعد متاحاً تأمين أموال بالدولار كما كان الحال قبل سنة أو ستة أشهر، فهذا يعني ان شريحة من اللبنانيين ستحصل على تمويل شهري بالليرة مقابل وقف الدعم. وفي تلك اللحظة، سيرتفع عدد العائلات المحتاجة بنسبة كبيرة وسريعة بحيث ستشمل اكثر من 80 % من العائلات. في هذه الحالة، ماذا سيكون الحل؟ وهل سيتم توسيع مروحة العائلات التي تتقاضى مساعدات مالية شهرية؟ وماذا سيحل بسعر صرف الليرة في هذا الوضع، حيث سيكون السبيل الوحيد لتأمين الليرات الاضافية طباعة المزيد من العملة الورقية؟
تبدو المأساة المقبلة، اذا لم يتغيّر المشهد السياسي فجأة، صعبة ومعقدة. ورغم انّ رياض سلامة حصّن خطوطه الدفاعية من خلال الدعم الذي تلقاه من نقابة المحامين ومن جمعية المصارف اللبنانية، ولو جاء على شكل «إنذار»، ومطالبة بعدم المس بما تبقّى من ودائع الناس، الا أن المواجهة لن تكون سهلة، وليس مستبعداً ان يخسرها امام المنظومة المتمسكة بمبدأ ابقاء الانهيار في مساره، الى ما شاء الله. ولعلّ سلامة يعرف مسبقاً انه يستحيل منع المنظومة من الاستمرار في هدر المال، لكنه يتصرّف وفق منطق «أللهم اشهد اني بلّغت».
مع الاشارة الى ان أسباباً عديدة تقف وراء عُقم السلطة السياسية في اتخاذ القرارات، ليس أقلها غياب الضمير، قلة الادراك، الجُبن، رمي المسؤولية على الآخرين. الى كل ذلك، لا يمكن استبعاد نظرية الاهداف السياسية الخاصة، والمرتبطة بمواصلة إنفاق اموال اللبنانيين على الدعم العشوائي، لأن ما يعتبره اللبنانيون هدراً فوضوياً لا يستفيد منه المواطن العادي، بقدر ما يستفيد منه اثرياء وتجار ومهرّبون، ينظر اليه آخرون بأنه مجهود حربي مطلوب في معركة اقليمية ينبغي التضامن فيها لدعم كل الجبهات، وفي مقدمها جبهة النظام السوري، لضمان الصمود، بصرف النظر عن الاضرار الجانبية (collateral damages) التي لا بد منها لربح الحرب