IMLebanon

الرياض حاضرة لبنانياً… ولها حساباتها والدور

ليس صحيحاً كلّ ما يقال عن أنّ المملكة العربية السعودية «نفضَت» يدها من لبنان تاركةً للّبنانيين «تقليع» شوكهم بأيديهم، لأنّ «بلدهم مخطوف» وتكبّدت فيه كثيراً سياسياً ومادياً ولم تحصد ما يعزّز دورها فيه، في مقابل أدوار الآخرين من قوى محلية ودول إقليمية، على حدّ ما يردّد بعض السياسيين القريبين من الرياض.

الرياض كانت ولا تزال حاضرة في قلب المعادلة اللبنانية، ولدى قيادتها من الدهاء ما يجعلها تخوض الحروب السياسية والعسكرية على جبهات عدة في وقتٍ واحد من دون أيّ كلل، مثلما هي حالها الآن على كلّ مساحة لبنان والمنطقة، ولذا كانت وما تزال حاضرة في هذا اللبنان لأنها تدرك انّه يشكّل عبر تاريخه مصنع الأدوار والأحجام لكلّ من يكون حاضراً على ساحته، فهذا اللبنان صَنع زعامة الراحلين جمال عبد الناصر وحافظ الأسد ورفيق الحريري، وكذلك إيران وحزب الله من حيث الأدوار الكبرى التي لعبوها إقليمياً وعالمياً بنتيجة حضورهم اللبناني وجَعلتهم أرقاماً صعبة في المعادلات الاقليمية والدولية، وهو ما تدركه السعودية جيّداً، وهي نالت نصيباً كبيراً من حيث الدور والحضور في تلك المعادلات، وإن كان البعض يرى حالياً أنّ هذا الدور «بَهُت» أو «ضَمُر».

آخر الدلائل، وليس الأخير، على الحضور السعودي في لبنان، التغريدات التي أطلقَها رئيس البعثة الديبلوماسية السعودية في لبنان وليد البخاري الأسبوع الماضي، والتي حاكت كلّ ما يحصل من تطوّرات متصلة بالاستحقاق الرئاسي وكذلك بتاريخ العلاقات اللبنانية ـ السعودية، وذلك من خلال استحضاره كلاماً لوزير الخارجية السعودي الراحل الامير سعود الفيصل يصف فيه وزير الخارجية السابق جان عبيد بأنه «حكيمنا جميعاً وحكيم وزراء الخارجية العرب»، وكذلك استحضاره كلاماً للرئيس الراحل رفيق الحريري يقول فيه: «إنّ ما يجمع لبنان بالمملكة هو أكثر من علاقة عادية، إنّها علاقة أهل، ولقد كان لبنان الوطن الثاني للسعوديين».

هذه التغريدات دلّت، في رأي البعض، على متابعة سعودية دؤوبة لِما يجري في لبنان، وتخالف حديث سياسيين عن «غياب لبنان» عن دائرة الاهتمام السعودي، وشكّلت في نظر البعض رسائل في مختلف الاتجاهات الى كلّ القوى السياسية المحلية وحتى الجهات الاقليمية والدولية المتعاطية الشأن اللبناني، سواء من بوّابة الاستحقاق الرئاسي أو من بوّابة العلاقة اللبنانية ـ السعودية، مفادُها أنّ القيادة السعودية تدرك ما يجري وأنّ لها موقفها الذي يمكن استشفافه من بين سطور هذه التغريدات ومغازيها والدوافع التي أملَتها، فالمسؤول الديبلوماسي السعودي الذي اطلقَها لم يطلقها ترَفاً أو لإحياء ذكرى، وإنّما للتأكيد انّ الرياض حاضرة في لبنان ولم تنسحب منه، وأنّ لها موقفها ممّا يجري، وأنّ «التغريد الديبلوماسي» أو «ديبلوماسية التغريد» عبر «تويتر» هي الأسرع نفاذاً، وأسهل الطرق لإيصال الرسائل الى من يعنيهم الامر.

وفي ضوء هذه المعطيات والوقائع، يقول قطب سياسي إنّ حركة الرئيس سعد الحريري ليست خالية من إيحاء سعودي لغايةٍ لدى المملكة تتّصل بدورها الحالي والمستقبلي وأهدافه على مستوى اللحظة السياسية المحلية والاقليمية الراهنة. فالرياض لا يمكنها ان تستقيل من دورها اللبناني أو أن تضحّي بمصالحها التي راكَمتها في لبنان عبر السنين كرمى لعيون هذا أو ذاك، سواء على مستوى الاشخاص أو على مستوى القوى والمجموعات السياسية المحلية والدول المتنازعة في لبنان والمنطقة، وبالتأكيد فإنّ ما تريده المملكة على مستوى دورها اللبناني يرتبط عميقاً بما يجري في المنطقة وبالحروب التي تخوضها ضد خصومها المحليين والاقليمين، وحتى الدوليين، على الجبهات المختلفة، وبالتالي ليست بعيدة أبداً عن الحراك الدائر حول انتخابات الرئاسة اللبنانية وما يرافقه وما سيَليه، سواء كتِب للحريري النجاح أم لا في مبادرته الرئاسية والتي سيخوض غمارَها عملياً على حد ما يرشَح من أوساط تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر».

لكنّ القراءة التي يجريها بعض القوى السياسية البارزة للمشهد السياسي الذي أحدثه حراك الحريري، تُظهر أنّ الرجل ينطلق من دوافع شخصية ومعطيات داخلية لبنانية بعيداً من أيّ خلفيات خارجية، فالقوى الاقليمية والدولية لا همّ لها لبنانياً الآن إلّا الحفاظ على الاستقرار الامني، وكذلك على الاستقرار المالي المهدّد بمخاطر في حال عدم إقرار مجلس النواب التشريعات المطلوبة لتحصين العلاج الموَقّت الذي أجراه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أخيراً ويؤسس لمعالجات لاحقة، خصوصاً إذا عولجت الأزمة السياسية. وهذه القوى لا تعير أمر انتخابات الرئاسة ذلك الاهتمام الذي عهده اللبنانيون في استحقاقات سابقة.

ولذلك فإنّ المشهد السياسي السائد بمعزل عن الواقع الاقليمي والدولي هو تلاقي مصالح بين شخصيتين، مصلحة رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون الراغب بتولّي سدّة رئاسة الجمهورية، ومصلحة الحريري الراغب بتولّي رئاسة الحكومة، ولذلك يتحرّك الرَجلان كلٌّ على طريقته وفي الاتجاهات التي تَخدم مصلحتَيهما.

ولكن ما أربَك الأجواء كان تغريدة رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط التي قال فيها: «وصلت كلمة السر.. الله يستر»، إذ اختلفت التفسيرات في شأنها، فالبعض قال إنّها تعبّر عن «موافقة» سعودية على مبادرة الحريري لترشيح عون، ولكن تبيّن لبعض الجهات السياسية الفاعلة أنّ مردّ هذه التغريدة اتّصال ما تلقّاه صاحبها أُبلِغ فيه أنّ الرياض لا تؤيّد توجُّه الحريري لترشيح عون، وبالتالي فإنّ قول جنبلاط «الله يستر» يَستبطن خوفاً لديه على ما سيكون عليه مستقبل الأوضاع إذا فشلت المساعي الجارية لإنجاز الاستحقاق الرئاسي عبر معادلة «عون لرئاسة الجمهورية والحريري لرئاسة الحكومة».

على أنّ البعض أعطى لتغريدة جنبلاط تفسيراً آخر مفادُه أنّ الرياض أيّدت ترشيح عون، ولكن الانتخاب لن يحصل نتيجة معارضة بعض الكتل النيابية الوازنة لهذا الترشيح، ما يحول دون توافر النصاب لجلسة الانتخاب قبل البحث في ما يمكن ان يناله من أصوات، خصوصاً إذا انعقدت وشهدت منافسة حادّة بين عون وزعيم تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية المتمسّك بترشيحه «حتى ولو بقيَ معي نائب واحد» كما قال إثر زيارته عين التينة الأسبوع الماضي.

المتشائمون يقولون إنّ ترشيح الحريري لعون إذا حصل ولم يلقَ توافقاً وترجمة عملية سيواجه المصير نفسه الذي آلَ إليه ترشيحه لفرنجية، ليؤول المصير الرئاسي لاحقاً إلى انتخاب رئيس توافقي.