تعتقد مراجع ديبلوماسية وسياسية مطلعة أنّ معظم ما تسعى إليه الحركة الديبلوماسية يصبّ في خانة القمّة العربية الطارئة التي دعت إليها الرياض في 11 الجاري. فمعظم ما يدور من مقترحات يجول بها وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن ونظراؤه العرب والغربيون، يهدف الى تهيئة الأجواء لاستيعاب النقمة العربية تجاه ما يجري في غزة. ولكن هل في قدرة الاميركيين توفير اي هدية للرياض تُبقي ردّات الفعل العربية تحت سقف مقبول؟
قياساً على التجارب السابقة التي رافقت الحروب الاسرائيلية – الفلسطينية ومسلسل المواجهات في قطاع غزة مع الفصائل الفلسطينية مداورة، فقد ساد الاعتقاد انّ موجات العنف والمجازر التي ارتكبتها آلة التدمير البرّية والبحرية والجوية الإسرائيلية قد تكون الأخيرة، قبل التفاهم على وقف لإطلاق النار. وهو ما انتهت إليه حرب تموز 2006 مع لبنان، ومجموعة الحروب الصغيرة التي شهدتها غزة منذ العام 2008، سواءً تلك التي استهدفت «الجهاد الاسلامي» و»حماس» أو اياً من المنظمات الأخرى. وهي نظرية سقطت في الحرب الاخيرة بفعل مسلسل المجازر التي ارتُكبت على مراحل عدة، منذ ان بدأت توغلها البرّي في القطاع، على وقع مجموعة من العمليات العسكرية غير المسبوقة التي استبقتها بقطع الانترنت والماء والكهرباء، فلم ترَ حرجاً في استهداف المستشفيات والكنائس والمجمّعات السكنية والأبراج بلا سابق إنذار، عدا عن استهداف الإعلاميين ومطاردة عائلاتهم بطريقة غير مسبوقة، وادّت ما ادّت اليه من مذابح لم يشهدها التاريخ مثيلاً لها.
وفي اعتقاد المراجع الديبلوماسية والعسكرية، انّ إسرائيل تجاوزت هذه المرّة كل التجارب السابقة، وهي التي استطاعت ان تقدّم نفسها ضحية لعملية «طوفان الأقصى» بعدما وصفتها بـ «الهولوكوست الثاني»، وأنّها كانت بمثابة «عملية 11 ايلول» التي استهدفت برجي التجارة العالمي في نيويورك، فنالت تفويضاً دولياً أعمى لتقوم بما قامت به وفق خطط كانت تحتفظ بها في بنك معلوماتها الذي تُخضعه للتعديلات في نهاية كل جولة من جولات العنف مع الفلسطينيين، وصولاً الى استهداف القطاعات الطبية والاستشفائية والدينية والأحياء السكنية المكتظة، بما فيها الأبراج التي كانت قد بدأت بتدميرها في جولات سابقة، عدا عن تدمير مكاتب المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية، بغية التأثير على قدراتها بنقل ما يمكن ان تنقله من الصورالإجرامية التي تدينها.
على هذه القواعد، لم يعد هناك من شك في انّ إسرائيل التي أُصيبت بنكسة كبيرة منذ 7 تشرين الأول الماضي، قد لا تعوّضها في المستقبل القريب، سعت الى الإفادة القصوى من الدعم الدولي الفوري الذي وقف الى جانبها ظالمة كانت أم مظلومة. واستفادت من كل المِهل التي أُعطيت لها من أجل تحويل قطاع غزة أرضاً محروقة تحت شعار استعادة هيبة جيشها وثقة المستوطنين بدولتهم، بعدما اطمأنوا لسنوات إلى جهوزية مختلف اجهزتها الاستخبارية وقواها الأمنية والعسكرية. وهو ما أثبتته الهجمات الجنونية التي قامت بها في موازاة حركة الوسطاء والقمم الاقليمية التي تعطّلت في اللحظات الاخيرة، والمفاوضات التي عُقدت في القاهرة وعمان والدوحة وبيروت، في موازاة المناقشات الدائرة في مجلس الأمن الدولي والمنتديات الاقليمية والدولية لممارسة أقصى الضغوط الممكنة لانتزاع ما لم تنله حتى اليوم.
وعشية قمّة الاردن الرباعية التي كان من المقّرر ان يشارك فيها الرئيس الاميركي جو بايدن، قصدت اسرائيل تنفيذ مجزرة «مستشفى المعمداني» لتعطيلها، ليأتي بايدن مباشرة الى تل ابيب بدلاً من عمّان، لتقديم فروض الدعم والتأييد المطلق بلا شروط، كما عطّلت «قمّة القاهرة للسلام» بمجموعة المجازر التي ارتُكبت في «جباليا» و»بيت حانون»، وسارعت الى شنّ أعنف الهجمات بعد عزل القطاع عن العالم، تزامناً مع اي محاولة في مجلس الأمن لتعطيل اي توجّه لإصدار قرار لوقف النار، احتسبته الإدارة الاميركية خدمة لحركة «حماس».
على هذا المنوال، تتواصل العمليات العسكرية الاسرائيلية بطريقة لا يمكن وصفها، في موازاة مجموعة من الإقتراحات الاميركية والعربية والخليجية لوقف النار ولو لأسباب «انسانية» بحتة ولفترة محدودة، تسمح بإدخال المحروقات الى المستشفيات التي توقفت وخرجت عن الخدمة، تحت وطأة التحوّلات الدولية التي أدانت توجّهاتها، مستشعرة المتغيّرات الدولية التي طرأت على الرأي العام الذي بدأ يتحوّل في اتجاه إدانتها في داخلها كما في اكثر من دولة في العالم، حتى تلك التي محضّتها الدعم والتي سمحت لإسرائيل للمضي في غيّها، معتبرةً أنّها فرصة أُعطيت لها لتنهيها بـ»ليالي الجنون» التي تعدّدت حتى الأمس القريب.
وأمام هول هذه الممارسات وضعت التعهدات الأميركية امام المجتمع الدولي والدول العربية بالسعي الى وقف للنار على طاولة محك التجربة، بعد التشكيك في قدرتها على لجم الاندفاعة الاسرائيلية ووضع حدّ لجنونها. فاللقاء الذي جمع وزير خارجيتها أنتوني بلينكن في عمّان مع نظرائه السعودي، المصري، الأردني، الإماراتي، القطري والفلسطيني، ثبت بالوجه الشرعي الفشل الاميركي في إقناع الحكومة اليهودية بوقف العمليات العسكرية قبل جلاء مصير الأسرى، من اجل ترتيب وقف للنار لفترة محدودة للاستجابة الى نداءات الدول والمؤسسات الأممية والانسانية. وهي محطة يُخشى من ان تقود إلى توسيع رقعة الحرب في اتجاه لبنان تحديداً وفي ساحات اخرى، على الرغم من مجموعة العمليات التي استهدفت قواعدها في العراق وسوريا ومن اليمن في اتجاه بوارجها في البحر الأحمر واسرائيل.
على هذه الخلفيات، تعزّزت المخاوف الديبلوماسية من انعكاسات ما يجري على مصير القمة العربية الطارئة في السعودية التي حدّدت موعدها بعد اسبوعين من تاريخ الدعوة إليها، على أمل ان تشكّل مهلة أمام الادارة الاميركية ومؤيدي العملية العسكرية الاسرائيلية في القطاع لوضع حدّ لها بأي شكل من الأشكال. فالعالم العربي والإسلامي يغلي، وقد تضطر الدول المطّبعة مع اسرائيل الى ان تحذو حذو المنامة وعمّان بقطع علاقاتها الديبلوماسية مع تل ابيب، عدا عن احتمال اللجوء الى قرارات أخرى قد تكون قاسية، وقد ظهرت بوادرها بتقليص إنتاج النفط اليومي بتفاهم سعودي ـ روسي، يفضي إلى رفع أسعار النفط العالمية، وهو ما قد ينعكس سلباً على المجتمعات الاميركية والاوروبية على أبواب موسم الشتاء، في دعم اسرائيل بلا حدود منطقية ومقبولة.
على هذه القواعد ترصد المراجع الديبلوماسية مدى قدرة واشنطن على الإيفاء بتعهداتها للجم اسرائيل عشية القمة العربية وإمامها ايام قليلة لتنفيذها. وفي جولة وزير خارجيتها على كل من أنقرة بعد رام الله ولقاء عمّان الديبلوماسي السباعي، مشروع أميركي يتناول الوضع في غزة بعد وقف النار، ويهدف الى تسليم السلطة الفلسطينية مهمّات ادارة القطاع، مع الوعد ببرنامج دعم مالي وسياسي ديبلوماسيي كبير يعطيه قوة دفع ترضي جانباً من شروط الرئيس الفلسطيني الذي يشكو من تضييق اسرائيلي يكاد يُفقده السيطرة على الضفة الغربية قبل ان يقبل بإدارة قطاع غزة.