كلّ ما صدر عن قمم الرياض، خصوصاً «الإعلان» الذي يُشير الى النيّة العربية والإسلامية والأميركية بمكافحة الإرهاب والتصدي للمشروع التوسّعي الإيراني، كان كلاماً كبيراً من النوع الذي لم تتعود عليه المنطقة، كذلك العالم. إنّه انقلاب بكل ما في كلمة انقلاب من معنى أكّده البيان السعودي ـ الأميركي. إنّه انقلاب على مفاهيم خاطئة سادت لدى الأميركيين وغير الأميركيين لفترة طويلة جعلت باراك أوباما يختزل كل مشاكل الخليج والشرق الأوسط بالملفّ النووي الإيراني.
يعكس ما صدر عن قمم الرياض وجود إدارة أميركية جديدة تعرف الخليج والشرق الأوسط جيّداً. هناك في الوقت ذاته إصرار عربي على الارتفاع الى مستوى الأحداث التي يعيشها الإقليم وهي أحداث تهدّد كل مجتمع من المجتمعات فيه. يحدث ذلك عبر استخدام سلاح اسمه سلاح التطرّف والإرهاب واثارة الغرائز المذهبية، وهو السلاح المفضّل لدى النظام الإيراني. من كان يتصوّر صدور بيان مشترك سعودي ـ أميركي يتحدث بكل هذه الجرأة عن الميليشيات الإيرانية مثل «حزب الله» وعلاقته بالدولة اللبنانية وسلاحه غير الشرعي وعن ضرورة وقف التدخل الإيراني في شؤون العراق وعن أهمية تعديل بعض البنود في الاتفاق المتعلق بالملف النووي الإيراني؟
كان أفضل من عبّر عن هذا الإصرار العربي الملك سلمان بن عبد العزيز الذي قال كلاماً هو الأول من نوعه الذي يصدر عن عاهل سعودي أو زعيم عربي. قال الملك سلمان «إن النظام الإيراني رأس حربة الإرهاب العالمي». تختزل هذه العبارة الحدث التاريخي الذي استضافته الرياض والمتمثّل في القمم الثلاث. استطاع العاهل السعودي إجراء تشريح دقيق لما يمثله النظام الإيراني الذي كان موضع إعجاب باراك أوباما وأفراد الحلقة الضيّقة المحيطة به.
كان «إعلان الرياض» واضحاً. عكس مصالحة مع الواقع وحدّد التحديات التي تواجه العرب عموماً من دون تجاهل لأهمّية الوصول الى تسوية معقولة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
من يتبرّأ من «إعلان الرياض» من بين العرب إنّما يعبّر قبل كلّ شيء عن جهل تام بما يدور ليس في لبنان فحسب، بل في العالم كلّه أيضاً. كشف «الإعلان» أن العرب صاروا في عالم عليهم أن يثبتوا فيه أنّهم جزء من المعادلة الإقليمية والدولية. لذلك، لم يترددوا، كما كانوا يفعلون في الماضي، في تسمية الأشياء باسمائها. لذلك قال الملك سلمان: «إن النظام الإيراني وحزب الله والحوثيين وداعش والقاعدة متشابهون». وضع كلّ هؤلاء في سلّة واحدة. هذا هو الواقع ولا شيء آخر غيره. لم يعد من مجال لأي كلام يتّسم بالديبلوماسية بعدما «ظنّ النظام في إيران أن صمتنا ضعف وحكمتنا تراجع، حتّى فاض بنا الكيل من ممارساته».
هذه الاندفاعة العربية لا تنطلق من فراغ. هناك قبل كلّ شيء تطوّر في التفكير الأميركي واستعداد لتحمّل المسؤوليات وتحطيم كلّ الأفكار المسبقة عن المجتمعات العربية والإسلامية، بما في ذلك المجتمع السعودي الذي استقبل دونالد ترامب وأفراد عائلته بحفاوة ليس بعدها حفاوة. لو لم تكن هناك بالفعل إرادة صلبة في دفع الأمور الى أمام، لما كان حصل هذا التغيير في النظرة الترامبية الى الإسلام والمسلمين والى تراجع الرئيس الأميركي عن ربط الإسلام، كدين يؤمن بالتسامح والاعتراف بالآخر، بالإرهاب والتطرف. ليس كلّ مسلم متطرّف وإرهابي. هناك اقلّية مسلمة من الإرهابيين والمتطرفين. المسلمون، بلغة الأرقام، هم في طليعة ضحايا الإرهاب والتطرّف. هذا ما خرج به الرئيس الأميركي من زيارته للرياض ومن لقاءات مع عدد كبير من الزعماء العرب سبقت وصوله اليها. كان على رأس هؤلاء الملك عبدالله الثاني والرئيس عبد الفتّاح السيسي والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي.
لا يمكن اختصار قمم الرياض بكلام قليل قبل مرور بعض الوقت بما يسمح بمعرفة الى أيّ حدّ هناك استعداد عربي للذهاب بعيداً في تحطيم الحلقات التي كانت تفرض في الماضي اعتماد سياسة التحفّظ والحذر، خصوصاً تجاه العدوانية الإيرانية. هذه العدوانية التي عبّرت أول ما عبرت عن نفسها في لبنان حيث نسف مقر «المارينز» والجنود الفرنسيين في بيروت في تشرين الأوّل 1983 ثمّ عبر تغيير طبيعة العاصمة اللبنانية وتركيبتها الديموغرافية وطرد الأجانب منها وحتّى إغلاق الجامعة الأميركية حيث خطف أحد رؤساء الجامعة ثمّ اغتيل ذلك الذي خلفه. هذا غيض من فيض ما حاولت إيران عمله في لبنان بدءاً بتدمير السفارة الأميركية على من فيها في نيسان 1983، أي قبل نسف مقرّ «المارينز» قرب المطار… وصولاً الى إحراق السفارتين السعودية والمغربية منتصف ثمانينات القرن الماضي. أرادت إيران بكلّ بساطة قطع علاقة العرب، كلّ العرب بلبنان، وحصر العلاقات الخارجية للبنان بها.
ما قاد الى قمم الرياض كان المصالح المشتركة بين أهل الخليج والأميركيين. ليس ما يمنع كلّ هذه الصفقات مع الولايات المتحدة. على العكس من ذلك، إنّها دليل على الرغبة في شراكة حقيقية وعميقة.
تبقى ملاحظتان. الأولى تتعلّق بتفادي ترامب أي إشارة الى روسيا ودورها والتركيز فقط على الدور الإيراني وعلى شراكة إيران في «المذابح» التي يرتكبها بشّار الأسد. هل يعني ذلك وجود تفاهم مع موسكو على دور مستقبلي لها في حال التزمت شروط اللعبة الأميركية، خصوصاً في سوريا؟
أمّا الملاحظة الثانية، فهي تتعلّق بلبنان الذي حضر عبر الرئيس سعد الحريري، الذي كان على رأس الوفد اللبناني في الرياض، فعلى الرغم من كلّ ما يتعرّض له، لبنان لم يستسلم بعد. وقد وجد الرئيس الأميركي مكاناً في خطابه للإشادة بالجيش اللبناني ودوره في الحرب على الإرهاب… ووجد البيان السعودي ـ الأميركي مكاناً لتأكيد أن لا بدّ من حصر السلاح بيد الجيش اللبناني وذلك كي تعود الحياة الى الوطن الصغير.