Site icon IMLebanon

القصّة الكاملة ما بعد بعد الناقورة… هنا رميش الأبيّة

 

رئيس جمعية أخضر بلا حدود: أنا مع ولاية الفقيه

 

 

هي رميش. هي ابنة الشريط الحدودي التي شاءت الجغرافيا أن تجعلها جارة فلسطين، وشاءت قوى الأمر الواقع أن تجعلها رهينة الجغرافيا وما تشاء. البارحة، قبل 22 عاماً، رُفعت على الصليب، فنزف أهلها الدم بارداً ونُعتوا بالعمالة فهربوا في «نصاص الليالي» من تخلٍّ طويل طويل ومتمادٍ للدولة عنهم. إثنان وعشرون عاماً وما زالت الدولة في وادٍ وأهل الشريط الحدودي في وادٍ آخر. هنا رميش. هنا بلدات ما بعد بعد الناقورة وما قبل قبل الدولة العدوة. هنا رميش وجيران رميش: القوزح ودبل وعين إبل وعلما الشعب وجزين وديرميماس ومرجعيون. هنا القهر يستمر عارماً ولامبالاة الدولة واستهتارها ولامبالاتها وقلة اكتراثها تستمرّ من عهد إلى عهد. فهل هم في دولة أم في دويلة ومزرعة؟ إليكم قصّة رميش والتخلي عن رميش والقهر المتمادي والحزب الأصفر وجمعية أخضر بلا حدود الكاملة بلسانِ أهل البلدة الجنوبية الحدودية.

تتبدل التسميات. البارحة كان “حزب الله” يأمر وينهي واليوم أدواته تفعل. الأخضر لون جميل. إنه رمز الخير والأمل والهدوء والسعادة. لكن ليس كل أخضر أخضر. فماذا عن جمعية “أخضر بلا حدود”؟ بهدوء إنطلقت الجمعية، باسم البيئة، باسم حماية الثروة الحرجية من التعديات والحرائق وتشجير المساحات الخضراء وتشحيل وتنظيف الأحراج. الى هنا، الأمر عادي. لكن، ما ليس عادياً، أن تمرّ ستة أعوام على ظهور الجمعية ولا تزرع شجرة، بل تكتفي بشقّ الطرق وإقامة نقاط حدودية، وبالأمس، وضعت، بحسب كاهن البلدة الأب نجيب العميل “كم شجرة خروب وصوّرتها بحجة أنها تنوي زراعتها”. ليست هنا القصّة بل أن نشاط الجمعية يتركز في رميش في مناطق يملكها أهالي رميش أنفسهم، بلا أذونات منهم، والأنكى ممنوع عليهم العبور الى ممتلكاتهم. فلنصغِ بدقة الى أهالي البلدة وهم يسترجعون الايام السوداء الغابرة والأيام القاتمة الحالية وربما الأكثر قتامة الآتية.

 

أعلام حزب الله لا تزال “تتعمشق” على أعمدة الإنارة من الناقورة ولوجاً أكثر فأكثر نحو رميش. إنها أكبر بلدة مارونية في لبنان. تضم- أو كانت تضم- 12 ألف نسمة. موارنة صرف. وكان يقيم فيها صيفاً شتاءً نحو ستة آلاف “رميشاوي”. كانوا أيام التخلي يأكلون أكواز التين قبل نضوجها من شدة الجوع، ويوم علت أصوات تُخبرهم بأن هناك من سيذبحهم في فراشهم هربوا. هذا كان في العام 2000. الذعر أمامهم والسيف وراءهم. وبين موتٍ وموت هرع من هرع منهم صوب “جوا”- الى بلاد العدو- عبر بوابة بيرانيت حيث يقع الجدار الطيّب. حال ذهول عمّت فهربوا في كل اتجاه. الدولة أهملتهم أيام زمان وجعلتهم يشتهون حبة الزيتون فعاشوا في فقر وجوع وتعتير. ويوم حصل التحرير أصبح واجباً على من بقوا، إذا احتاجوا الى شيء، أن يتصلوا بالحج عزيز في “حزب الله” أو الحج حسن درويش في حركة أمل. كثيرون من أهل رميش كانوا في الجيش وبقوا حيث هم بعدما وصلتهم برقية في 14 آب 1976 رقمها 3860 موجهة من العماد قائد الجيش حينها حنا سعيد، يأمر فيها العناصر العسكرية من أبناء البلدة الإهتمام بالقرية بعدما انحلّت القطع العسكرية التي كانت متمركزة في قرى الشريط. حكاية قديمة مفعمة بشعور الخيبة من دولة وواقع وجغرافيا. وكان ما كان.

 

خواطر حاج

 

ها نحن في الحاضر، في اللحظة، في مشاكل باتت تتكرر كل يومين وأسبوعين وشهرين… بحجج بيئية، زراعية، في الظاهر. رئيس الجمعية هو زهير نحلة. الحج يحبّ الأمثال. هو نشيط على السوشيل ميديا وهو عاشق للخواطر وبينها: “من سار بين الناس جباراً للخواطر تجاه الله ولو كان في جوف المخاطر”. خاطرة تلحقها خواطر. نبحث أكثر عن الرجل لنتأكد مما إذا كان حقا ينتمي الى “حزب الله” فنجد صور السيد حسن وكلمات من نوع: “وأيّ كلام فيك يقال يا شرف الأمة وزينة الرجال”. نتوغل أكثر في حساباته فنجد صور الإمام الخامنئي وعبارة منه: “إن حبي وولائي للقائد المرجع علي خامنئي” وأتبعه بهاشتاغ: “أنا مع ولاية الفقيه”. القصّة ظاهرة مثل الشمس، إذا كان رئيس جمعية أخضر بلا حدود مع ولاية الفقيه فماذا قد تفعل جمعيته في بلدة مارونية صرف ليست أبداً مع ولاية الفقيه.

 

تأكدنا من كل الكلام الذي يصدر من هنا ومن هناك عن جمعية ورئيس الجمعية. فلنعد الى رميش. بونا نجيب، نجيب العميل، كاهن البلدة دعا الأحد الماضي، في عظته، الأهالي “الى عدم الخوف أو التوقيع على سندٍ يحرمهم من أرضهم” وقال لهم بالحرف “هذه أرضكم وأرض جدودكم فتمسكوا بها”. هو كاهن محبوب من الأهالي ويتكلم بلسانهم. نسأله عن رميش وقلق رميش والتعدي المستمرّ على رميش فيجيب “إنهم يستبيحون أراضينا ويجرفونها ويقطعون الأشجار المعمرة” ويستطرد بالقول “جاءنا البارحة خبر من مسؤولين في الجمعية عن أنهم يريدون التفاوض. سألناهم: على شو؟ على ماذا تريدون التفاوض؟ على حقوقنا؟”.

 

في كلِ مرة تحدث فيها مشاكل من هذا النوع تتبع بكلام عن “العيش المشترك”. رميش مع العيش المشترك. رميش فيها فرسان العذراء والقديس مارجريس و1200 جندي وجندية في الجيش اللبناني. رميش تبتعد عن المشاكل لكن، إذا لزم الأمر، فستدافع عن الأرض بالحبّ متكلة على حقّ وعلى ما تبقى من دولة. نصغي الى أبناء رميش وبناتها يتحدثون: “الأراضي ملك لنا، و”حزب الله” يعرف ذلك تماماً، والمنطقة الواقعة فيها الإعتداءات لها، على الخارطة، حدود مع الأراضي الفلسطينية بينها صموخة وقطمون ويوجد على تلك الحدود الجيش اللبناني. “حزب الله” له مراكز وراء الجيش. وهناك نقطة قريبة من اليونيفل في المنطقة. ومنذ فترة بدأت جمعية أخضر بلا حدود في قطع السنديان المعمّر وزرع أشجار خروب وأصبح ممنوعا علينا – على أصحاب الأراضي – التوجه إليها. وكلما أردنا ذلك نتواجه معهم. إنهم يستقوون علينا لإخافتنا”.

 

منطقة عسكرية

 

المنطقة واقعة ضمن القرار 1701- بالشكل. ماذا في روايات الأهالي؟ منذ العام 1971 لم يعد الأهالي قادرين على الوصول الى أراضيهم بعدما زرعت إسرائيل الألغام فيها. ومنذ عامين عملت جمعية دولية مع الجيش اللبناني على نزع الألغام وبدأ الأهالي في الذهاب الى أراضيهم. هناك ثلاثة مالكين لتلك الأراضي التي يتمّ الإعتداء عليها حاليا لكن، مع مرور الوقت، أصبح هناك عشرات الورثة. للقصّة تتمة نتابعها مع الأهالي: “أتى في العام 1840 الأب يعقوب غانم من بكاسين واشترى ثلاث مزارع مساحتها آلاف الدونمات من أهل بلدة “حورفيش”، وهي ضيعة فلسطينية قريبة، أهلها من الدروز والمسيحيين. وسجّل الملكية في صور لا في صفد، ودفع يومها للعثمانيين ضريبة. لاحقاً، في العام 1884، باع تلك الأراضي ووزع بعضها على أهالي رميش وأصبح بحوزتهم صكوك عليها طابع عثماني”. إذاً، الأراضي المعتدى عليها، باسمِ البيئة والأخضر، هي ملك رميش وأهالي رميش.

 

في المباشر، أقيم في قطمون- قطمون رميش الحدودية الملاصقة لبلاد العدو- مركز لـ”حزب الله”. هؤلاء نجحوا، باسم البيئة، في شقّ الطرقات وجرف الأشجار، وعملوا، خصوصا في الآونة الأخيرة، على إرسال أشخاص، يتحدثون باسمِ الحزب مع الأهالي، ويضغطون عليهم، من أجل التوقيع على سندات إيجار. ويبدو أن لا أحد قد وافق هذه المرة على ذلك، في حين أن أحدهم ل. ع. قبل أن يؤجر أرضه في العام 2016 الى جمعية اخضر بلا حدود مدة ثلاث سنوات. انتهى عقد الإيجار عام 2019، لكن الجمعية رفضت الإخلاء. وهو نفسه، أي ل. ع، أدرجت الدولة العدوة اسمه، قبل أشهر، على أنه تاجر مخدرات. هو وقّع عقد الإيجار من دون علم بقية الورثة. وفي الخبر الذي صدر في صحيفة الشرق الأوسط أونلاين: “كشف الجيش الإسرائيلي عن هوية المسؤول عن عملية تهريب مخدرات جرى إحباطها على الحدود مع لبنان ويدعى ليون العلم وهو على صلة بحزب الله”.

 

بعد الترسيم

تاريخيا، ثلاث هجرات حصلت في رميش، الأولى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، الثانية عام 2000، والثالثة تحصل اليوم. الرميشاويون يرون أراضيهم تنتهك. فمن يراجعون؟ الجيش اللبناني؟ القضاء؟ الدرك؟ للحزب الأصفر أناسه في كل المواقع. فهل يشكونه إليه؟ في الآونة الأخيرة، بعد الترسيم، ظهر تغيّر في سلوكيات “حزب الله”. هو أصبح أكثر ظهوراً من قبل. باتت له مراكز واضحة. يبدو وكأنه ارتاح إلى وضعه اليوم. والأهالي شاهدوا عبر المنظار بيك آب ينقل البحص والرمول الى أراضي أهالي رميش.هذا لا يحدث فقط في رميش بل يتكرر هو نفسه في مرجعيون وديرميماس والقوزح وعلما الشعب. لكن، ما يحدث أن القرى والبلدات الصغيرة شبه فارغة من أهاليها بينما رميش، البلدة الأكبر، يسكنها في الشتاء ستة آلاف نسمة، يرتفع عدد مواطنيها في نهاية الأسبوع، في الويك اند، الى 7500 نسمة. وهؤلاء جميعا يأبون السكوت عن حقوقهم. فماذا تريد جمعية أخضر بلا حدود؟

 

المركز الجديد الذي أنشأته الجمعية يبعد ثلاثين متراً عن الخط الأزرق. وعناصر الجمعية يدردشون مع العدو وكأن لا عداء معهم. ويملك العناصر “الخضر” أسلحة كلاشنيكوف، أطلقوا نيرانها مراراً على الأهالي العزّل. والدولة تعرف جيداً ذلك. ويملك هؤلاء آليات بلا أرقام من نوع تاكوما رباعية الدفع يتجولون بها. إنهم ينشطون اليوم في مواقع، في خط دائري، يكفل لهم تطويق رميش من ميل وربط مواقعهم ببعضها البعض. فاين أنتِ يا دولة؟ نعود الى أبونا نجيب. يقول “حقّنا مقدس. إذا أرادوا التشجير فليضعوا أشجار الخروب في البلدية ويطلبوا منا، إذا شئنا، تشجيرها بدل السنديان المعمّر. نحن لا نريد إلا الجيش اللبناني على أرضنا. هناك مركزان على تلال رميش قادر الجيش أن يرى منهما قلب حيفا. فلماذا يأتون هم للقيام بأعمال ظاهرها بيئي وباطنها أمني؟ نحن ما يهمنا هو حسن الجوار مع الأهالي من الطائفة الشيعية. نحن نعلّم في مدارسهم وهم يدرسون في مدارسنا. ولدينا أصدقاء شيعة ونتشارك في الأفراح والأتراح. فلماذا يتقصد البعض تدمير تلك العلاقات؟”.

 

هناك، في رميش، يتكرر اليوم اسم ديغول أبو طاس الذي انخرط في صفوف “حزب الله” وسهّل “سبيلهم” في رميش واعتقل مرتين، عام 1976 وعام 1999 في سجن الخيام. إنهم يستخدمونه في اللعب على أهالي البلدة. “حزب الله” يعرف كيف يتوغل عبر ما يسمى سرايا المقاومة. فهل هناك اليوم، بعد الترسيم، قرار داخلي في “حزب الله” لتطويق المناطق الحدودية مستخدماً بعض الأهالي؟ البطريرك بشاره الراعي حكى في عظته عن الموضوع. الجيش اللبناني عارف بكامل القصة. راعي أبرشية الروم الأرثوذكس في مرجعيون المطران الياس كفوري حكى عن الإعتداءات التي تحدث على اراضي المطرانية في مرجعيون لكن لم يجب أحد. لا احد نجح أقله حتى الآن في الحؤول دون الإعتداءات المتكررة على حقوق المسيحيين في المناطق الحدودية. ماذا عن دور بلدية رميش؟ رئيس البلدية ميلاد العلم موجود حالياً في الخارج لكنه يتابع كل ما يحصل والبلدية أصدرت، باسم الأهالي، أكثر من بيان. لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ “حزب الله” إستمرّ ينغل في المناطق طوال الأعوام الماضية. المياه قطعت عن المناطق وبُدلت خطوطها. هناك من يستمر في إقفال سبل الحياة عن تلك المناطق مراهناً على أنه بذلك سيتمكن من الإستيلاء على الاراضي مع مرور الأيام. رهان خاسر. وماذا بعد؟ من يحمي رميش وجوار رميش؟ أين أنتِ يا دولة؟ يبدو ان ما يصلح مع ما تبقى من دولة هو المثل القائل: العين بصيرة والإيد قصيرة. هكذا كانت دولتنا منذ سبعينات القرن الماضي وتستمرّ. لكن، ما يُطمئن أن أهالي رميش يستمرون في وضع أراضيهم بين رموش العيون.