في فترة الأعياد المباركة وفي استمرار المخاض العسير الذي يعيشه لبنان في سبيل إيجاد افضل خريطة طريق للوصول الى تحقيق المطالب المحقة، هذه المطالب التي دفعت الناس الى النزول الى الشارع وفي سلم أولوياتها محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة واعادة الثقة الى العلاقة بين السلطة والناس، اخترت أن أكتب مقالاً بعدة أجزاء لشرح أبرز المعارك والمحطات التي خضناها لتحقيق الشفافية ولتغيير العقلية في ادارة الشأن الاقتصادي، وخاصة انني تعوّدت على المصارحة التامة في مسيرتي، ولأنّ هذه الافكار اعتبرها أساسية في بناء خريطة مقبلة اذا كنّا نريد تغيير العقلية والبناء على أسس مختلفة، والأهم أنني أواجه دائماً أسئلة من نوع «ماذا فعلت؟» أو «متى اقترحت؟».
وفي مصارحة الرأي العام أتمنى إعادة إحياء بعض المبادرات التي أخذت منّا جهداً ووقتاً لترسيخها، عسى أن تتمخّض الثورة عن عقلية شبابية مستجدة تعيد بناء الهيكل على أسس الشفافية والاصلاح.
لقد وضعتني تجربتي في القطاع الخاص والقطاع العام أمام قناعة أساسية وهي انّ الحالة الراهنة مزرية، واذا استمرت لن نجد أي نوع من الانتاجية في اقتصادنا. حاولت عبر السنوات الماضية إقناع المسؤولين بأنّ الطريقة المعتمدة لن تجدي نفعاً وستقودنا الى المجهول، وقد تحقّق معظم ما حذّرت منه، وأشعر بالأسى اليوم لأننا لم نستفد من الفرص العديدة لتغيير المسار الاقتصادي المتعثّر، وكانت الكتابة ملجئي الوحيد حين تسد آذان المسؤولين عن التفكير الاقتصادي السليم، في محاولة لتوعية الرأي العام والمواطنين حول حقوقهم الاساسية، والتي لن تتحقق الا بتحويل لبنان الى ساحة تنافسية في الاقتصاد. إنّ سرد بعض هذه المحطات ليس للتفاخر او لنقد الذات، بل لإعادة هذه العناوين للمناقشة والتعلم من الأخطاء لرسم طريق واضحة للاصلاح:
الانتاج الوطني
كانت معركتي رئيساً لجمعية الصناعيين تحت شعار «حماية الانتاج الوطني» التي أدخلتنا في معركة شرسة مع كل السلطة السياسية حينذاك، تمثلت بالآتي:
1 ـ تطبيق قانون حماية الانتاج الوطني الذي أقرّه مجلس النواب بتاريخ 8/ 12/ 2006، والذي بالطبع استغرقت مراسيمه سنتين لتصدر وأتت المراسيم التنفيذية لتنسف روحية القانون.
2 ـ تنفيذ الاجراءات الوقائية لحماية الصناعة الوطنية.
3 ـ البحث في التكاليف الباهظة التي يتكبّدها القطاع الصناعي على صعيد الطاقة.
4 ـ وضع دلالات المنشأ بوضوح على الانتاج المستورد، وضرورة محاربة التهريب.
وبالطبع أصرّت السلطات المتتالية على سد الآذان عن صراخ الصناعيين، شهدنا تدمير صناعة تلو الاخرى، إقفال مصانع وتشريد عائلات، وكل ذلك ولبنان لم يتحرك للاستفادة من مبادىء منظّمة التجارة العالمية التي تتيح تأمين الحماية لصناعاتها المتضررة، فلم نطبّق التجارة الحرة الّا في موضوع إغراق الأسواق بالبضائع، وخالفنا المبادىء في كل أوجه الحياة الاقتصادية الأخرى فأبقينا على الاحتكارات والحمايات للصناعات التي تتمتع بحصانة سياسية (فِهمكن كفاية)، كل ما قامت به الدولة اللبنانية منذ عشرين عاماً حتى اليوم انها حاولت الانضمام الى نادي دول منظمة التجارة العالمية، ولكي تتمكن من الانضمام كان عليها تقديم «كبش محرقة» لترضي به الدول التي تراقب الأداء اللبناني، وذلك بدل أن تقوم بتغيير شامل للعقلية الاقتصادية المتحجّرة التي تُعاقب المبدع والمنتج وتكافىء المُحتكر. ولسوء الحظ كان القطاع الصناعي هو كبش المحرقة الوحيد الذي تم تقديمه على طبق من فضة، لنثبت للعالم انّ اقتصادنا تنافسي وحر. وأبقت الدولة اللبنانية على كل الممارسات الاحتكارية الاخرى، والتي تمتعت بها كل القطاعات الأخرى وبَنت امبراطوريات لها على حساب المواطن والاقتصاد اللبناني. كما قامت باختراع احتكارات جديدة من الخلوي الى الميكانيك والتأمين الالزامي وغيرها الكثير.
المضحك المبكي، أنني كنت أشدّد عام 2002 في كل كلمة ألقيها او مقال أكتبه على انّ «القرارات اللازمة لوضع لبنان على سكة النمو والتطور، تستوجب عصر النفقات وتقليص العجز وزيادة الواردات وتبسيط المعاملات وتشجيع الاستثمارات، ولغاية الآن ما زلنا نطالب بالشيء نفسه. وعبر سلسلة «أخوت شاناي» التي انطلقت في الـ2006 اقترحنا أن «يولّد اللبنانيون كهرباءهم ولفترة زمنية محدّدة بـ3 سنوات قد نستطيع خلال هذه المدة ان نوفّر على ماليتنا العامة أكثر من 1,5 مليار دولار». الله يرحم تراب أخوت شاناي، بعد اكثر من 10 سنوات نحتاج الى المزيد من هذا الجنون لحلول خارج التفكير التقليدي.
ثورة لبنان غير الملموسة
عام 2006، عملنا على تعميم مفهوم ثروة لبنان غير الملموسة والتي تعارض الفكرة التقليدية في انّ لبنان لا يملك ثروات وموارد طبيعية، وهو ما يمنعنا من بناء اقتصاد مُنتج (ثروة لبنان غير الملموسة، النهار 2006)، وركّزنا على ما يبدو انّ (البنك الدولي، هيرالد تريبيون، الإتحاد الأوروبي، والقطاع الخاصّ اللبناني) يحاول أن يُخبرَ مسؤولينا نفس الأشياء بهدف دفع النمو وتوفير فرص عمل وزيادة ثروتنا غير الملموسة، ومنها:
1 – الاستثمار في التعليم (خصوصاً التعليم الرسمي)، وتدريب للمهارات والخبرة.
2 – تحسين الحوكمة والتأسيس لنظام قضائي فعّال وكفوء.
3 – تحسين المنافسة والنمو الإقتصادي، خلق بيئة باعثة على الإستثمار وتطوير القطاع الخاصّ، ترويج النمو في القطاعات العصرية مِن صناعة وخدمات، والدفع بإنتاجية العمل الى الامام.
4 – تطوير الثقة بين الناس وتشجيعهم على العمل سوية خدمة لهدف مشترك.
5 – تأليف حكومة فعّالة ومؤسسات تسمح للبناني باستثمار القوة العقلية التي يمتلكها.
6 – عكس عملية استنزاف الأدمغة وهجرة اللبنانين المهرة.
ألا تبدو هذه نفس مطالب الحراك اليوم، ألا يستحق شباب لبنان مفهوماً جديداً لثورة لبنان غير الملموسة.
المجلس الأعلى للتنافسية
ما زلت مقتنعاً بفكرة إنشاء مجلس أعلى للتنافسية، بدأنا هذه المعركة لإقناع المسؤولين بأهمية وضرورة هذا المجلس الذي يتمثّل بإعطائه صلاحيات إعادة صياغة كل الاجراءات الادارية في الدولة اللبنانية من دون الرجوع الى الادارات المختصة. ويكون دور هذا المجلس الانطلاق بورشة لإعادة صياغة كل المراسيم التنفيذية والاجراءات الادارية، بالتعاون مع أهل الاختصاص والمجتمع المدني والهيئات الاقتصادية والاكاديمية وبدراسة العراقيل التي تعيق الاستثمار في لبنان ومحاربتها، وتوجيه المستثمرين الى لبنان عبر الترويج للفرص الاستثمارية في لبنان وتسهيلها.
كانت العقدة الاولى أمام هذا المجلس انّ هناك رفضاً تاماً لتخطي سلطة الوزير، والذي أصبح بعد الطائف يتمتع بصلاحيات لا محدودة، حتى انّ موضوع الصلاحيات بات صراعاً خفياً بين الوزراء أنفسهم، وهناك العديد من المشاريع والقوانين توقفت وانهارت بسبب عقدة الصلاحيات. والحجة الثانية كانت انّ المجلس سيمارس مهام وزارة الدولة للتنمية الادارية، علماً انّ المقاربة مختلفة، لأنّ المطلوب من المجلس كان إدخال عقلية القطاع الخاص الى الاجراءات، وهذا ما ينقصنا بعد سيطرة الكتبة والفريسيّين عابدي النصوص على طريقة إدارة الدولة.