Site icon IMLebanon

الدولة تسير بين الطرقات المقطوعة على عجلات مشتعلة

 

من ثورة الدواليب إلى ثورة تشرين 

لطالما كانت الطرقات عرضة للإقفال جراء أبسط خلاف بين الخصوم السياسيين، ولطالما كان أمن الوطن هشاً وعرضة للاهتزاز بمجرد خلاف على حصة أو وزارة، بل وحتى عند توقيف مطلوب. وتميزت الثورة التي هبت في كل المناطق اللبنانية في 17 تشرين الأول بالإنضباط، على الرغم من الإشكالات والاعتداءات على المتظاهرين التي ارتكبها محازبون ومناصرون لأحزاب برغبة منها، على العكس من التحركات السياسية التي كانت تنذر دوماً بإشعال فتنة وحرب أهلية. مرّ لبنان بمحطات كثيرة جرى خلالها تعطيل مؤسسات الدولة وقطع الطرقات. وإن كان من قطع الطرقات بالأمس بوحشية يرفض قطعها اليوم بسلمية بذرائع مختلفة تعامى عنها عندما اقتضت مصلحته ذلك، فلا ضير من التذكير بمراحل تعطيل المؤسسات وقطع الطرقات سابقاً. وإن كان ما يصفونه بـ”التعطيل” اليوم لا يهدف إلى التعطيل بل إلى تفعيل عمل مؤسسات الدولة والدفع نحو حكومة فعالة تنتشل لبنان من الأزمة العالق بها.

ثورة الدواليب

 

في 16 أيار من العام 1992، شهد لبنان ما عرف بـ “ثورة الدواليب”. حيث جرى إقفال طرقات عدة في مناطق مختلفة بالدواليب المشتعلة احتجاجاً على تردي الوضع الإقتصادي، بعدما انخفض سعر صرف الليرة بمقابل الدولار وبلغ ثلاثة آلاف ليرة للدولار الأميركي. أدت الاحتجاجات إلى استقالة رئيس الحكومة في حينها الراحل عمر كرامي. بذلك أسقط اللبنانيون أول حكومة تشكلت بعد الحرب الأهلية والثانية بعد اتفاق الطائف، والتي كلِّفت بمهام صعبة، على الرغم من نجاحها في حل معظم الميليشيات، أو ربما الأصح القول دمج معظمها في مؤسسات الدولة العسكرية. ويومها اتُهِم رئيس مجلس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري بتعمّد اللعب بسعر صرف الدولار لإسقاط حكومة كرامي الأولى كي يحلّ مكانه ويبدأ بتنفيذ سياسته الإقتصادية.

 

 

 

يوم “حزب الله” المجيد

 

في 7 أيار من العام 2008 شهد لبنان إقفالاً للطرقات اعتُبر الأعنف في تاريخه بعد 18 عاماً على انتهاء الحرب وشهد تعطيل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. يومها نزل المسلحون مع عتادهم إلى الأرض وأقفلوا الطرقات والمؤسسات العامة بقوة السلاح، رداً على قرارين اتخذتهما الحكومة اللبنانية في جلستها التي عقدت بتاريخ 5 أيار برئاسة فؤاد السنيورة. إذ اعتبرت الحكومة شبكة اتصالات “حزب الله” غير شرعية واعتداء على سيادة الدولة والمال العام، وكلفت الإدارات المختصة والقوى الأمنية بمعالجة الأمر ومحاسبة كل من يثبت ضلوعه في العملية أفراداً كانوا أو أحزاباً أو هيئات أو شركات. كذلك قررت الحكومة إعادة قائد جهاز أمن المطار في حينها العميد وفيق شقير إلى ملاك الجيش ومتابعة الدولة للملف منعاً لأي خلل في أمن المطار والبلد. واتخذ القرار بعد اتهام شقير بالمسؤولية عن وضع كاميرا على المدرج 17 في مطار بيروت. وهو ما دفع بالنائب السابق وليد جنبلاط بالكشف عنها خشية عمل أمني قد يطاله مع من كانوا ضمن فريقه من قوى 14 آذار. لم يرق القراران لـ”حزب الله” الذي اتهم الحكومة باتخاذهما لكشفه أمنياً وتنفيذاً لأجندة خارجية. ورداً على القرارين سارع “حزب الله” إلى إطلاق عناصره المسلحين، وكذلك عناصر الميليشيات الحليفة له، في شوارع العاصمة والجبل. وقطعت طريق المطار بالسواتر الترابية واستولت مجموعات “الحزب” على مراكز تيار المستقبل في بيروت وكذلك حصلت اشتباكات في الجبل. فسقط العديد من القتلى من أبناء الوطن الواحد في ذلك اليوم “المجيد”.

 

أيام عصيبة ومرعبة عاشها اللبنانيون قبل التوصل إلى اتفاق الدوحة في 21 أيار برعاية أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. يومها قبِل “حزب الله” بوساطة قطر ولم يضع الأمر في خانة التدخلات الخارجية لأن قطر كانت من ممولي إعادة الإعمار بعد حرب تموز في بعض المناطق التي يحكم قبضته عليها، وكان شعار “شكراً قطر” ما زال يصدح في أذهان حزبييه. وانتهت بذلك أزمة سياسية استمرت 18 شهراً شهدت العديد من الأحداث الدامية. أما اليوم فبات تلقي الأموال من قطر وغيرها تهمة يلقيها “الحزب” على المتظاهرين، وبات قطع الطرق بسلمية أمراً مرفوضاً من أولئك الذين قطعوها بقوة السلاح.

 

 

 

ما قبل 7 أيار

 

سبق يوم “حزب الله” المجيد أزمة سياسية طويلة، قبل أن تنتهي بالاتفاق الذي مكّن “حزب الله” من تعزيز نفوذه في الداخل اللبناني وفرض قانون انتخاب يمنحه وحلفاءه أكثرية نيابية، ما رسّخ المعادلة القائمة اليوم والتي يحرص الحزب على استمرارها بانتظار ترسيخه معادلة جديدة. فبعد انتهاء حرب تموز 2006 وبعد اتهام “حزب الله” لقوى 14 آذار بالتآمر عليه، وبعد شعوره بأنه خرج من الحرب منتصراً ووجد حليفاً مسيحياً يؤمن له غطاءً من لون طائفي آخر، بدأ سعي “حزب الله” الى تغيير المعادلة الداخلية التي كانت قائمة. فاستقال في 11 تشرين الثاني من العام نفسه وزراء أمل وحزب الله من الحكومة التي رأسها فؤاد السنيورة. بعدها بيومين استقال الوزير يعقوب الصراف والذي عيّن من حصة الرئيس السابق إميل لحود. بعد الإستقالة عمل حزب الله على الدفع باتجاه إقالة الحكومة التي تشكلت بعد الانتخابات النيابية في العام 2005، والتي خاضها الحزب في بعض المناطق متحالفاً مع المستقبل والاشتراكي والقوات ( إدمون نعيم في بعبدا). إذ شكلت التحالفات النيابية الجديدة فرصة للحزب للبحث عن تشكيل حكومة جديدة على قاعدة التحالف المستجد. وبعد عجزه عن إسقاط الحكومة بالإستقالات حاول الحزب إسقاطها في الشارع.

 

بعد أكثر من سنة على فشل الحزب وحلفائه بإسقاط الحكومة، انتهت ولاية الرئيس إميل لحود في 24 تشرين الثاني من العام 2007 فدخل لبنان في فراغ رئاسي. تسلمت الحكومة كأمر واقع مهام رئاسة الجمهورية بانتظار انتخاب رئيس جديد. فقامت الحكومة بأعمال الرئاسة خلال فترة الفراغ مع استمرار الخلاف مع المعارضة حول شرعية الحكومة وكيفيه ممارسة أعمال الرئاسة. لم يمنع الفراغ الرئاسي الحزب وحلفاءه العونيين، الذين يحذرون المحتجين اليوم من الفراغ، من الاستمرار في السعي لإسقاط الحكومة قبل انتخاب رئيس للجمهورية. كما طالب الحزب بانتخابات نيابية مبكرة طمعاً بنتائج تمكنه من انتخاب الرئيس الذي يريده. في هذا الوقت استمرّ اعتصام “حزب الله” وخيمه في وسط بيروت التي بقيت معتصمة هناك حتى أيار 2008. وخلال هذه الفترة التي سبقت 7 أيار حصل العديد من المواجهات الدامية بين مناصري “حزب الله” وخصومه، سقط خلالها العديد من القتلى والجرحى.

 

هو تاريخ يفسر عدم ارتياح “حزب الله” للتحركات التي تجري في الشارع اليوم وتحذيره من خطورتها. خوفاً من أن تغير المعادلة التي رسخها بقوة السلاح والدم التي انتجت اتفاق الدوحة.

 

 

ضربة “ملك” تُسقط حكومة الحريري

 

في العام 2011، وبعد خلاف حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وأولوية وضع “بند شهود الزور” على جدول أعمال مجلس الوزراء، أسقط “حزب الله” حكومة “الوحدة الوطنية” التي رأسها سعد الحريري وذلك بضربة من الوزير الملك هذه المرة. إذ لم تؤمن استقالة وزراء أمل و”حزب الله” و”التيار الوطني الحر” العشرة الثلث زائداً واحداً اللازم لإسقاط الحكومة. فاستقال الوزير الشيعي الذي عين من حصة الرئيس ميشال سليمان، عدنان السيد حسين، تلبية لرغبة “حزب الله”. وكافأ الثنائي الشيعي السيد حسين لاحقاً على موقفه “النبيل” بتعيينه رئيساً للجامعة اللبنانية. بينما عاد ودخل لبنان مجدداً في المجهول واستمرت الحكومة نحو 5 أشهر بتصريف الأعمال قبل أن تتشكل حكومة جديدة. يومها لم يخش المستقيلون الفراغ ولا الفوضى التي يلوحون بها اليوم للمواطنين الباحثين عن خلاص. والملفت أكثر أن الأحزاب نفسها التي أسقطت الحريري بعد اتهامه بالرضوخ للتدخلات الخارجية، وتعهدت بعدم تسميته لرئاسة حكومة جديدة، هي ذاتها التي تمسكت به أخيراً وحاولت الدفع باتجاه عدم استقالته متهمة المتظاهرين بتنفيذ أجندة خارجية.

 

 

 

زمن الفراغ الرئاسي… كان أرحم

 

بين أيار 2014 وتشرين الأول 2016 شهد لبنان الفراغ الرئاسي الأطول في تاريخ الجمهورية الثانية. نحو عامين ونصف العام من تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية والتحايل على الدستور، لتحديد الجلسات النيابية، انتهت بالتسوية الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة. وجرت التسوية الرئاسية بعد اقتناع فريق 14 آذار بعدم قدرته على انتخاب رئيس من تحالفه. وأنجزت التسوية بعد تبني الحريري ترشيح النائب سليمان فرنجية للرئاسة، ومن ثم التراجع عن قراره ليتبنى ترشيح عون بعد اتفاق مع باسيل، وذلك بعد انسحاب سمير جعجع من السبق الرئاسي وترشيحه لعون. عامان ونصف العام من الفراغ الرئاسي عاشها لبنان في ظل مجلس نواب ممدد لنفسه، وفي ظل أزمة النفايات التي عصفت في البلاد في العام 2015 والتي استدعت نزول عشرات الآلاف إلى الشوارع في شهر آب. تجربة ربما تؤكد قدرة البلد على الاستمرار وإن استجاب رئيس الجمهورية لمطالب الثوار بالاستقالة من منصبه بعد تجاهله لمطالبهم. خصوصاً وأن التسوية الرئاسية يبدو وكأنها سقطت هي أيضاً مع إسقاط حكومة الحريري.

 

 

 

تسريبة محمرش

 

في كانون الثاني من العام 2018، سرّب تسجيل لرئيس “التيار الوطني الحر” وزير الخارجية جبران باسيل في بلدة “محمرش”وصف فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري بـ”البلطجي”. كان التسريب كفيلاً بإغضاب جمهور النبيه، فقادوا بحق باسيل وزوجته، ابنة الرئيس، حملة شتم واسعة على مواقع التواصل الإجتماعي. ونزل الجمهور الغاضب إلى الأرض وأقفل العديد من الطرقات في مختلف المناطق في الجنوب والبقاع والضاحية. كاد غضب المناصرين أن يشعل فتنة، بعد توجّه مناصرين لـ”أمل” إلى مركز “التيار الوطني الحر” في مبنى ميرنا الشالوحي وإطلاق النار أمامه. كذلك توجه مناصرون لـ”أمل” على دراجاتهم النارية إلى منطقة الحدث، ما أدى الى استنفار أهالي المنطقة ونزول عدد منهم إلى الأرض. توتر الأجواء في المنطقة دفع بنواب ومسؤولين عونيين للنزول هم أيضاً إلى الشارع والتهديد والوعيد لردع “الخصوم”. وعمل حليف الخصمين على امتصاص التوتر حرصاً منه على حلفه. فعاد الود المصطنع إلى العلاقة بين الحليفين اللدودين وخاضا في أيار 2018 الانتخابات النيابية معاً في منطقة بعبدا، والتي كادت سابقاً أن تتحول بتسريب إلى منطقة اشتباك بينهما.

 

 

 

الحكومة كادت تُدفن في قبرشمون

 

في الماضي القريب جداً، وفي 30 حزيران الماضي وأثناء زيارة قام بها الوزير باسيل إلى الجبل، كادت تشتعل الفتنة في المنطقة، وسقط قتيلان من مرافقي وزير الدولة صالح الغريب. فأقفل العديد من الطرقات بالإطارات المشتعلة وساد التوتر في الجبل. انتقل التوتر المسلح على الأرض إلى مجلس الوزراء، فتوقف عن الانعقاد نحو 40 يوماً. هي أزمة تسبب بها وزراء في الحكومة تعمدوا تعطيلها وهم على دراية تامة بسوء الوضع الإقتصادي وبأننا سنصل إلى الانهيار الذي نعيشه اليوم. المفارقة أن الوزراء أنفسهم يتهمون اليوم المواطنين الغاضبين من سياساتهم الإقتصادية الرديئة بأخذ البلد إلى المجهول، محمّلين إياهم نتائج كسلهم وفسادهم. والأنكى أن الخلاف الذي عطل عمل الحكومة المفترض أن تكون مهمتها تجنيب لبنان الأزمة الإقتصادية، انتهى بسحر ساحر بعد صدور بيان من السفارة الأميركية. فلم تعد مسألة إحالة ملف الجريمة إلى المجلس العدلي تهدد مصير الحكومة. فالرئيس عون والذي نقل عنه زواره قوله بأنه ليس شيخ عشيرة ليجمع الناس ويصالحهم، عاد وجمع رئيس “الحزب التقدمي” وليد جنبلاط بالنائب طلال إرسلان وصالحهما بحضور الرئيسين بري والحريري. فحلت الأزمة بمونة من السفارات وعادت الحكومة إلى عملها، لكن وبدل اتخاذ خطوات إصلاحية حقيقية سعت لتحميل المواطنين كلفة الانهيار الذي تسبب به أركانها على مدى 30 عاماً، وفرضت المزيد من الضرائب، فكان في قرار فرض ضريبة على “الواتساب” مقتل الحكومة، بانتظار تشكيل حكومة جديدة.

 

 

 

الطرقات تُقفل أيضاً من أجل موقوفين

 

من عجائب لبنان أن طرقاته لا تقفل فقط من أجل قضايا عامة، وإنما تقفل أيضاً لمصالح خاصة. ففي تشرين الثاني من العام 2016 أقفلت الطرقات في بيروت والبقاع احتجاجاً على توقيف تاجر الهواتف والأجهزة الالكترونية الشهير كامل أمهز. وأوقف أمهز بعدما استُدعي للتحقيق لدى القاضي فادي عقيقي، الذي أصدر قراراً بتوقيفه بعد التحقيق معه واتهامه بتهريب الأجهزة الخلوية إلى لبنان. بعد انتشار خبر توقيف أمهز سارع عدد من المواطنين المؤيدين له لقطع طريق المطار وطريق بعلبك الدولي، وطرقات أخرى بالإطارات المشتعلة للضغط من أجل الإفراج عنه. علماً أن توقيف أمهز حصل بعد اعتراف أحد رجال الأمن بقبض رشوة من أمهز مقابل تمرير حقيبتين مليئتين بالهواتف، وبعد سنوات طويلة من ذياع صيته. إذ يلقب البعض تاجر الأجهزة الخلوية الشهير بـ”إمبراطور الأجهزة الخلوية”. وكما هو متوقع، أخلي سبيل أمهز بعد ما يقارب الثلاثة أسابيع مقابل كفالة مالية قدرها خمسة عشر مليون ليرة. وقبل توقيفه، وتحديداً في العام 2014 طاولت شركة “ستارز كومينيكايشن” التي يملكها أمهز عقوبات أميركية لاتهامها بمساعدة “حزب الله” على شراء معدات لطائرات من دون طيار.

 

تثبت التجارب إذاً أن قطع الطرقات والتعطيل ليس مسألة تتحمل مسؤوليتها ثورة لا تزال ناعمة جداً. بل هي أزمة نظام مأزوم ينتج الأزمات كل مدة وكلما اختل توازن ما فيه أصبح الأمن بدوره عرضة للخلل. هو النظام الذي يحاول الثوار اليوم الانتفاض عليه لبناء دولة لا تولّد الأزمات ولا تصطدم كل مدة بخلل ما يذهب ضحيته شباب أبرياء.