بقاء الأداء الأميركي الراهن على وتيرته الحالية، سيعني تحوّل فرضية تعنّ على الخاطر كثيراً، الى حكم أكيد مفاده: إن «ديبلوماسية تويتر» التي يحترفها الرئيس دونالد ترامب تبدو أقل نجاعة من «ديبلوماسية الصواريخ» التي تعتمدها كوريا الشمالية في شرق آسيا. وإيران في قلب آسيا!
بل إن النجاعة مصطلح خفر للدلالة على أمر آخر، لا يعني شيئاً سوى الفشل: بحيث أنّ واشنطن تصعّد لهجتها وسياساتها وعقوباتها وتوعّداتها ضدّ بيونغ يانغ وطهران، لكن جيران العاصمتَين «الصاروخيّتَين» هم المرشّحون لدفع أثمان مهولة في الحالة الأولى (الكورية) وهم الذين لا يزالون يدفعون أثماناً مهولة في الحالة الثانية (الإيرانية).
ما قاله الرئيس ترامب في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة يدلّ على عنف توعّدي مشروط أكثر من دلالته على نهج ثابت، قرّر هو وإدارته «الجنرالية» اعتماده إزاء ما يبدو أنّه أخطر تحدٍّ تواجهه البشرية منذ «هيروشيما» و«ناغازاكي» لجهة الاحتمال الواقعي (جداً!!) لاستخدام سلاح الدمار الشامل من قِبَل كيم جونغ أون! أو إزاء المشروع الإيراني المشتمل على نفسٍ مهدوي أبوكاليبسي يربط العدل الأخير بنواحٍ إفنائية لا بدّ منها!
أي إن ترامب يستعير بعض عادات سلَفه السيّئ الذكر باراك أوباما: يحكي كثيراً ويفعل قليلاً! ويتّخذ مواقف، ويجعل الآخرين يدفعون أثمانها! ثم الأخطر من ذلك يدلّ في معظم «القضايا» التي يواجهها على أنّ خطوته الثانية محكومة بطبيعة الرد على خطوته الأولى! أي إنه يبدو من دون استراتيجية ثابتة وواضحة، بل إن جلّ تكتيكاته تؤكد ما يسعى الى تأكيد عكسه، أي الانكفاء الى الخلف وتثبيت «هشاشة» الوزن والتأثير لأكبر وأقوى دولة في هذه الدنيا.
فعلها قبله مستر أوباما إزاء ضم الروس شبه جزيرة القرم وتدخّلهم في أوكرانيا. ويفعلها هو مستر ترامب، إزاء تنامي احتمالات تفلّت الكوريين الشماليين من أي عِقال. وإزاء تنامي وتيرة التدخلات الإيرانية في شؤون الدول المجاورة وبين شعوبها وأقوامها. ثمّ إصرار القيادة في طهران على التمسّك بـ«روح» الاتفاق النووي، الذي يعني، على ما هو بيّن وملموس وواضح، مقايضة التخلّي عن طموح إمتلاك «القنبلة الإفنائية» بتوسيع مدارات «النفوذ» الخارجي على حساب شعوب العرب ودولهم واستقرارهم وثرواتهم!
.. يبادر الروسي (في القرم وأوكرانيا) فيُشهر ساكن البيت الأبيض سلاح العقوبات! ثمّ تبدأ المساومة من نقطة أخرى: تُرفع العقوبات «إذا» صَحَّح المرتكب ارتكاباته! والنتيجة، أنّ القرم «عادت» نهائياً الى حضن الوطن الأم! والأزمة الأوكرانية تعسّ بلا أفق!
ويبادر الكوري الشمالي بألاعيبه الصاروخية، فيردّ عليه ساكن البيت الأبيض بالعقوبات! فيصعّد المرتكب ويصل الى التجربة النووية.. فيأتي الرد عبر زيادة العقوبات، والتغريد على «تويتر»! ثم زيادة التهديدات التي تشبه تلك التي كان يطلقها محمود أحمدي نجاد ضد إسرائيل! فيما (على الأرجح) يستعد «الطفل المعجزة» لرعاية تجربة جديدة، صاروخية.. أو نووية!
.. وتستمر إيران في أدائها الخارجي على الوتيرة المتّبعة منذ أيام أوباما، وبعد وضع الاتفاق النووي.. فيردّ ترامب بتصعيد اللهجة (وعبر «تويتر» أيضاً!) ثم بفرض بعض العقوبات الجديدة. ثم بإكثار الحكي عن مدى سوء ذلك الاتفاق! وصولاً الى إدراج الصواريخ في بند «القضايا» المطلوب متابعتها بإلحاح! فتردّ طهران باستعراض صاروخي جديد! وبتأكيد تمسّكها بكل «شبر» وصلت إليه أنوارها «الحداثية»!
في خلاصة الأمر، أن اليابانيين والكوريين الجنوبيين لا ينامون الليل قلَقاً من كارثة إفنائية محتملة في أي وقت! والأوكرانيين لا يجدون درعاً كافية لوقايتهم من جارهم الصاعد الى استعادة «أمجاده»! وشعوب اليمن والعراق وسوريا (ولبنان!) تستمر في دفع أثمان الجموح الإيراني! فيما مستر ترامب مأخوذ بـ«تويتر»! وبكيفية تحييد السيناتور جون ماكين عن معركته لإسقاط «أوباما كير»! ثم بكيفيّة متابعة تحدّيه لأباطرة حزبه الجمهوري!
ليس المطلوب بطبيعة الحال، أن تباشر الولايات المتحدة حروباً ضد روسيا أو كوريا الشمالية أو إيران، لكن يصحّ الظنّ والافتراض والتحليل، أن بقاء أكبر وأقوى دولة في العالم في موقع «القيادة من الخلف» ومن دون إستراتيجية واضحة وثابتة، سيعني تمدّد طموح أباطرة المشاريع الكبرى وأنصاف الآلهة والطغاة الخلاصيين، الى محاولة تعبئة الفراغ في موقع «القيادة من الأمام»!