IMLebanon

من الرياض فبيروت وباريس: قصة نزاع الدولة على قرارها الخارجي

لفت مسؤولٌ سابق خلال الأشهر الماضية عناية رئيس الحكومة تمام سلام أكثر من مرة الى ضرورة أن يسعى لضبط أداء وزير الخارجية جبران باسيل في المحافل الدولية والإقليمية. وأخيراً حصل نوع من اللوم داخل «١٤ آذار» لجهة أنّ سلام لا يرسل الإشارات الكافية لباسيل ليقنعه بأنه لا يمكنه أن يجعل منصبَ وزير الخارجية صندوق بريد يرسل منه آراءه الشخصية.

ساد أخيراً في كواليس «14 آذار» والقريبين منها، انتقاد لسلام واتهامه بأنّه أخطأ مرتين في مسايرة باسيل؛ إحداهما باتت معروفة وتتعلق بالموقف الذي تفرّد به باسيل بإسم لبنان خلال اجتماع مجلس الجامعة العربية لإدانة إحراق السفارة السعودية في طهران. لكنّ الخطأ السابق له، والذي لم يُثار حينها إلّا ضمن كواليس «14 آذار» الضيقة، فيتعلق بغض سلام نظره عن باسيل عند شطبه «إعلان بعبدا» من ورقة بيان الجامعة العربية.

آنذاك زار مسؤول سابق سلام وأبلغه أنّ ما جرى هو «خطأ كبير يستدعي تصحيحه»، واقترح عليه الاتصال بالأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي وإبلاغه أنّ موقف باسيل لا يُعبّر عن موقف الحكومة اللبنانية.

استمع سلام لملاحظة المسؤول، لكنه جرياً على سلوكه المتحفظ تجاه إبداء ردود سريعة على الأسئلة السياسية التي تُطرح عليه، لم يقدم أيّ إجابة ولم يتصل بالعربي. وبانقضاء وقت قصير على اللقاء، قرّر المسؤول السابق أخذ المبادرة بيده، وسطّر رسالة الى العربي طالبه فيها باعتبار موقف باسيل غير المؤيّد لـ»إعلان بعبدا» بمثابة رأي شخصي ولا يُعبّر عن الحكومة اللبنانية. وقبل إرساله كتابه الى العربي، مرّر نسخة عنه الى سلام الذي أيّد مضمونه.

في وقت تالٍ على هذه الواقعة، اعتبر سلام أنّ تصدّيه لباسيل خلال جلسة مجلس الوزراء التي اشتهرت بالمشادة الحامية بينهما أمام كاميرات وسائل الاعلام، بمثابة دليل كاف على أنه إستردّ اعتبار موقع إشراف رئاسة الحكومة على وزير الخارجية، إذ قال له «تحمّلتك كثيراً».

وهذه عبارة لم تكن فقط موجهة لباسيل بل إلى منتقدي «دولة البك» الذين اعتبروا أنّ مسايرته «لصهر» العماد ميشال عون لا يمكن وضعها في خانة فضيلة «الصبر السلامي» بل باتت نوعاً من الضعف تجاه الرابية.

في الوقت الذي كانت تُعقد اجتماعات مجلس الجامعة العربية إثر إحراق السفارة السعودية في طهران، كانت كواليس إقامة الوفود الخليجية العربية، تسرّب للوفد اللبناني بأنها تتفهّم ظروف بلد الأرز، وأنها لا تطلب من لبنان بالضرورة أن يصطف بنحو كامل وراء موقف العرب، وتحديداً وراء محور السعودية المطالَب بإدانة شديدة اللهجة لايران وحزب الله. كانت هناك حلول وُسطى يتمّ التداول بها لتظهير موقف لبناني داخل اجتماع الجامعة العربية لا يبدو من جهة نافراً عربياً ولا يُسيء من جهة ثانية الى استقرار الوضع الداخلي اللبناني.

وفي كلّ الحالات بدا مقبولاً عربياً أن يسجّل باسيل تحفظه عن مقاطع من قرار الجامعة المندّد بإيران، لأنه، بحسب مصدر خليجي، كان يسود نوع من التفهم العربي لاحتياجات الحفاظ على استقرار لبنان، ولكنّ الذي صدم الخليجيين لاحقاً هو خروج باسيل الى الإعلام بعد ذلك ليصور موقفه أنه «بطولة» و«انتصار لبناني في الجامعة يقدّمه هدية لإيران».

عند هذا التطوّر، تجدّد اللوم في كواليس «14 آذار» لسلام، وبالتالي تصاعد الكلام عن عدم صرامته في إجبار وزير خارجيته على تقييد أدائه بمحددات توجه إجماع الحكومة في خصوص الموقف من النزاعات الاقليمية.

في هذه الأثناء، طفت على سطح الحدث اللبناني قضية إخراج ميشال سماحة من السجن، وإصدار المحكمة العسكرية حكمها في هذا الشأن. من جهته وزير العدل أشرف ريفي اعتبر أنه المعني الأول بتصحيح هذا الحكم، كونه الأقرب اختصاصاً الى هذا الملف بصفته وزيراً للعدل. سرّب ريفي على نطاق ضيق الى الإعلام منذ وقت مبكّر من تفاعل هذه القضية، معلومة تفيد أنه يدرس موضوع اعتكافه من الحكومة في حال لم يستجب مجلس الوزراء لمطلب إعادة محاكمة سماحة من خلال نقل ملفه من المحكمة العسكرية الى القضاء العدلي.

في المحافل السياسية نُظِر الى تهديد ريفي على أنه سلاح ذو حدين، جزء منه موجَّه الى «8 آذار»، والآخر موجَّه الى سلام وتوجّه الحريري داخل «14 آذار». وكلاهما مسؤولان في نظر معسكر المتشددين في «14 آذار» عن إبداء حال استرخاء في مواجهة «حزب الله» وما يسمونه «طغيانه على قرار البلد».

ويعتبر ريفي من معسكر موجود داخل تيار «المستقبل» يرى أنّ سياسات «14 آذار» من ترشيح الحريري للنائب سليمان فرنجية الى ترشيح رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع لرئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، تعبّر عن «نزعة استسلامية مجانية» لمحور إيران في لبنان.

في كواليسه كان ريفي قبل استقالته يرفع الصوت متسائلاً عن «خطورة الرسالة التي تصل الى قاعدتنا الاجتماعية في لبنان من جراء تمرير الإفراج عن سماحة. فهي ستقول لهم إنّ أعراضكم وممتلكاتم وأرواحكم ليست محمية ومتروكة من الدولة ومن أحزابكم وزعمائكم وليست مشمولة برعاية القضاء». من حيث الجوهر فإنّ موقف الحريري من قضية سماحة، كما نقلته عنه أوساطه، ليس أقلّ تصلّباً من موقف ريفي.

ولكنّ الحريري يضع هذا الملف في إطار عام وليس جزئياً. وكرّر الحريري أمام الشخصيات التي زارته في الرياض قبل أيام من عودته الى بيروت «أنّ الفريق الآخر يريد جرّنا الى مواجهة تأخذنا الى الفوضى، ونحن لا نريد لـ«داعش» أن تستغلّ الفوضى لتنتشر بين ثنايا بيئتنا». ودافع الحريري عن خياراته «لتدوير زاويا حلقة أزمة البلد المغلقة والحادة».

وبمفعول رجعي لم يقتنع بأنّ منتقدي خطوته كانوا على صواب، على رغم أنه كان بينهم مَن حذّره مسبقاً بأنّ ترشيحه لفرنجية سيفضي الى تقوية مناخ ترشيح عون. واعتبر الحريري أنّ مقترحه أنجز على الأقل هدف تحريك الحيوية السياسية الداخلية لإنهاء الشغور الرئاسي.

وخلال الآونة الاخيرة وبعد خطوة جعجع بترشيح عون، تلقى الحريري كثيراً من السيناريوهات التي قدمت له كاقتراحات يمكنه انتهاجها لتصويب موقع «14 آذار» في معركة الرئاسة.

كان أبرزها سيناريو يقترح عليه عقد مؤتمر صحافي يعلن فيه «أنه من خلال ترشيحه فرنجية يكون قد جرّب ولم ينجح» وعليه «فإنني اقترح أن يكون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من خارج «8 و14 آذار»». وفذلكة مقترحي هذا السيناريو تقول إنّ هدفه هو جعل حزب الله و»8 آذار» يخسران ورقة ابتزاز الحريري برئاسة الحكومة واستعادة المبادرة من يد عون وجعجع وحزب الله.

في السعودية كانت الأجواء تتحرّك خلال تلك الفترة (بين منتصف الشهر الأسبق وحتى بدايات الشهر الحالي) في اتجاه إجراء إعادة تقويم شامل لموقف الرياض الكامل من لبنان. حدّدت أوساط السعودية للذين زاروها من اللبنانيين في الشهرين الماضيين موعداً هو أواسط شباط الحالي لتحديد وجهة العمل التي ستعتمدها السعودية في لبنان؛ وقوامها المفاضلة بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما إدارة الظهر كلياً للساحة اللبنانية، أو التحرك فوقها بقوة وبأسلوب جدّي وغير مسبوق في تعاطي السعودية الخارجي.

ويبدو أنّ القرار استقرّ على الخيار الثاني، بدليل أنّ مجلس الوزراء السعودي صدر عنه أمس بيان يُبرّر خطوة تجميد أموال تسليح الجيش اللبناني من ناحية ويعلن في الوقت عينه أنه مستمرّ في عدم التخلّي عن لبنان وفي مهاجمة حزب الله. كان لافتاً في هذا المجال أنّ قرار الرياض الصادم بسحب تمويلها لصفقة تسليح الجيش اللبناني تزامن مع تسريب معلومات الى وكالات أنباء تتكهّن بسحب الودائع السعودية في مصرف لبنان المركزي وإمكان طرد لبنانيين مسيحيين ومسلمين مقيمين في المملكة لديهم علاقات سياسية مع حزب الله و«التيار الوطني الحر»!

الأجواء من باريس

منذ أسابيع عدة، كان واضحاً أنّ غيمة من التصعيد السياسي ستُظلّل لبنان كنتيجة لتصاعد النزاع الإقليمي على سوريا. في باريس جرت محاولة لاعتراض هذه الغمامة وإيقاف تقدمها نحو البلد وذلك بمناسبة زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني الشهر الماضي لباريس.

ويروي مصدر فرنسي مواكب للوضع اللبناني وعلى صلة بفرنجية لـ«الجمهورية» وقائعَ من لقاءٍ جمعه في باريس بشخصية إيرانية كبيرة كانت ضمن الوفد المرافق لروحاني، فيقول إنّ الشخصية الايرانية أكدت أنّ الرئيس فرانسوا هولاند طرح على روحاني مسألة التعاون لتمرير انتخاب فرنجية رئيساً في لبنان. وأكد أنّ هولاند دافع عن خيار فرنجية في الاجتماع.

لكنّ المصدر الإيراني نقل عن وزير الخارجية محمد جواد ظريف قوله «إنّ طهران تعتبر ترشيح فرنجية هو مناورة سعودية ـ فرنسية، ولذلك تتحفّظ عنه».

واللافت، بحسب المصدر الفرنسي، أنه عندما أكد لمحدثه الإيراني أنّ فرنجية أبلغ الى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله اعتزامه لقاء الحريري مسبقاً وأنه طمأنه الى أنه لن يخرج عن سقف سياسة «8 آذار»، فإنّ الأخير نقل عن ظريف تأكيده أنّ فرنجية ابلغ الى نصرالله بلقائه الحريري بعد حصوله.

ولكنّ ظريف أكد «أنّ خيار فرنجية الذي تعرفه إيران وتحترمه قد يُعاد له الاعتبار لاحقاً، وبعد أن يتم إخراجه من دائرة المناورة السعودية التي ترى إيران نفسها معنية بإحباطها نظراً الى ظروف الاشتباك الإقليمي في المنطقة».

ويخلص المصدر الفرنسي الى القول إنّ انتخابات رئاسة الجمهورية أصبحت ملفاً مهملاً الآن في باريس نظراً لتأكد قصر الإليزيه من أنه جزء من النزاع الإيراني ـ السعودي المستمرّ حالياً.

وتعزو مصادر في الإليزيه على صلة بالملف اللبناني فشل ترويج انتخاب فرنجية الى أنّ الأخير ترك لتيار «المستقبل» ان يروي مقترح ترشيحه بدلاً من أن يقوم هو نفسه بهذا الأمر. وفي أيّ حال فإنّ مقاربة باريس الراهنة للبنان عادت الى نظرية رؤية ملفه من خلال أحداث الساحة السورية